الشباب الذين وُلدوا في عام (1989م) مع ثورة الإنقاذ وكذلك الذين كانت أعمارهم ما بين سنة واحدة وحتى عشر سنوات، قد لا يدركون حجم المعاناة التي كان يكابدها أهلهم في الحصول على كثير من السلع والاحتياجات.. وهذه الشريحة قد تصل إلى أكثر من أربعين إلى خمسين في المائة من مجمل السكان الآن.. وقد درجتُ بين الحين والآخر أن أذكِّرهم والذكرى تنفع المؤمنين أننا كنا نعاني في الحصول على أبسط مقوِّمات الحياة ولا نجدها إلا بعد شق الأنفس واللهاث في فترة حكم النميري والأحزاب.. وهؤلاء الشباب عاشوا في زمن الوفرة النسبية على الرغم من غلاء المعيشة الذي يعتبر ظاهرة عالمية لا تخص بلادنا وحدها. وأقول إننا كنا وعلى طول الفترة الممتدة من عقد السبعينيات وحتى مشارف التسعينيات لا نعرف الحصول على السلع التموينية إلا عن طريق البطاقة التموينية، ولكي نحصل على جالونين من البنزين كان لا بد أن يستعد أحدنا ويودِّع أهله ويحمل معه الماء والطعام و«يدفر» سيارته إلى أقرب محطة بترول.. وإذا كان الفصل شتاءً فعليه أن يحمل معه «البطانية والمخدة» لزوم النوم هناك؛ لأنه ربما سيقضي يومين أو ثلاثة؛ ولأن السيارات كلها تكون فارغة من الوقود فقد كان من الضروري أن يتعاون الجميع على «لز» السيارات من الصفوف الطويلة حتى تصل إلى «الخرطوش» وكان في «ضهرية» كل سيارة «باقة فاضية» وأنبوبة لشفط البنزين.. وهذان الجالونان يحصل عليهما صاحب السيارة بعد أن يستوفي الحصول على دفتر البنزين من المجلس وبعد دفع الرسوم المقررة.. والجالونان عبارة عن تموين لمدة أسبوع كامل، وإذا حدث أنك كنت تريد القيام بمأمورية فعليك رفع الأمر لجهات الاختصاص للتصديق لك بحصة إضافية لا تزيد عن خمسة جالونات حتى لو كنت ذاهباً إلى القضارف أو إلى دنقلا. وكنا نحصل على رطلين من السكر للأسرة كلها والمكونة من عشرة أشخاص ولمدة أسبوع كامل بعد دفع الرسوم والحصول على دفتر تموين السكر.. وإذا حدثت وفاة في منزلكم ومات أبوك أو أمك فعليك أن تتقدم بطلب مشفوع باليمين وعليه دمغة وشهادة الشهود حتى تصدق لك السلطات العليا بالحصول على عشرين رطل سكر.. وحتى سجائر البرنجي كانت هي الأخرى يتم صرفها عن طريق كرت التموين، أما السجائر الأخرى مثل البنسون فقد كانت من السلع البذخية والاستفزازية، يحضرها المغتربون معهم من دول الخليج في أيام العيد الكبير أو عيد الفطر ومعها صابون الحمام أبو ريحة وكنا نحصل على الرغيف بمعدل خمس رغيفات يومياً وفي عهد الرئيس نميري رحمه الله كان خلافاً قد نشب بين الرئيس أنور السادات والنميري مما جعل الأول يتهكم على رغيفنا ويقول إنه مثل «ديل الكلب».. وكنا نحصل على «خمسة من ديل الكلب» بعد أن نصحو قبل الفجر ونصلي الصبح حاضراً ليس في المسجد ولكن في صف الرغيف والطابونة بلدية ولون العيش أسود لخلطه بالذرة وكان لكل مواطن حجر أو صفيحة يجلس عليها ويتركها لتحدد مكانه في اليوم التالي، وكان من المعروف أن هذا صفيح فلانة وهذا حجر حاج فلان وإذا حدث أن مات أبوك أو أمك فعليك مرة أخرى أن تحضر الشهادات الدالة على ذلك وتدفع الرسوم لتحصل على خمسين رغيفة من نوع ديل الكلب.. وحتى البيبسي كولا كانت من المواد الصعبة المنال وكان عليك أن تحصل على تصديق مسبق وتدفع مقدماً لإقامة زواج أختك وتدفع «الأمنية» «بتاعت القزاز» وكان الحصول على أربعة ألواح من الثلج من أصعب المهام لزوم الأفراح أو المآتم وكان المغتربون يحضرون لنا معهم من دول الخليج بعضاً من «مواد الرفاهية» مثل الصابون والريحة والمعجون واللبن البدرة والحلاوة وأمواس الحلاقة والقمصان والجلاليب والأرز والشعيرية والعدس والمحلب والضفرة والصندل.. وكان المغترب عندما يزور السودان يقوم بتوزيع صابونة وصباع معجون لأقرب الأقربين من أهله وفي سرية تامة وهنا نحكي عن الطرفة المشهورة التي تقول إن أحد المغتربين كان قد أحضر لكل واحد من أفراد أهله صابونة ومعجون، ولكن أعطى واحداً منهم «مصحفاً» وقام الرجل باستلام المصحف وقلَّبه بين يديه وهو ينظر إلى صابونة هذا ومعجون ذاك.. وقال «نحن كلام الله ما بناباهو لكن الفيك عرفناها».. ورأينا فقط أن نذكر أولادنا وأنفسنا ومن ينسى من سادتنا وكبرائنا أننا مررنا بأيام عصيبة ولم نشاهد الوفرة في البضائع والسلع إلا بعد التسعينيات وحتى الآن. صحيح أن الأسعار عالية ولكنها ظاهرة دولية لا تخصنا وحدنا.. وعليه وجب أن نتذكر ولا ننسى ونطلب من ناس المعارضة والزعماء السياسيين الذين كانوا حكامنا أيام العسرة والندرة أن يتذكروا معنا كل ذلك، حيث كانوا عاجزين عن توفير أبسط مقومات الحياة لمحكوميهم، بينما يملأون الأرض صياحاً وكلاماً عن الحريات السياسية والتوافق السياسي والحكومة ذات «القاعدة العريضة» والحكومة «البدينة» والحكومة «أم أربعة وأربعين».. وينسون أن الناس تريد أن تأكل وتشرب وتلبس وتتزوج وتحتفل وتعيش وهم يريدون أن يحكموا الشعب بالحق الإلهي والوراثة المستحقة وبالأشباح العائدة من مقبرة التاريخ. { كسرة: دلْ على وعيك أيها المواطن، وراقب مِن حولك كل حركات وسكنات الأجانب، وكن جاهزاً لإخطار الجهات الأمنية بأي حركة غير عادية أو تصرف غير متوقع.. فربما كان الأجنبي أحد أعضاء خلية «نايمة» أو خلية صاحية.. وبهذه المناسبة فإن كل جنوبي أجنبي.