العالم العربي مرَّ ومازال يمرُّ بالثورات التي عرفت بالربيع العربي، والتي أفرزت أنظمة حكم مغايرة لما كان معهوداً، حيث سقطت كل الأنظمة التي كانت تمهد للسيطرة الاسرائيلية الامريكية على المنطقة. وباتت النزعة الإسلامية هي الطاغية على الشارع السياسي العربي، وفي دول محورية كمصر ودول مؤثرة على جيرانها كتونس وليبيا، بينما بقية الشعوب تنظر باعجاب لما يدور في تلك الدول وتؤيد الانظمة الجديدة. وقد ظهر هذا الأمر جلياً في انتخاب الرئيس المصري أحمد مرسي، وقد شهدت الفرحة العارمة التي ظهرت في وجوه السودانيين بمختلف اتجاهاتهم السياسية وفي معظم الدول العربية والإسلامية، حدث هذا بالنسبة للانتخابات المصرية والتونسية والليبية. وقد لاحظ المحللون السياسيون في الغرب أن انفصال جنوب السودان يمهد الطريق لقيام دولة اسلامية خالصة، خاصة بعد المطالبات بإصلاح نظام الحكم في السودان لتطبيق نظام الحكم الإسلامي السليم بعد أن شابه الكثير من الشوائب التي أحدثت تشوهات خطيرة على مستقبل البلاد وحتى وجودها ضمن الخريطة الجغرافية والسياسية باعتبارها دولة موحدة. وهذه المطالبات برزت من داخل النظام وتسندها قوة شعبية لا يستهان بها، أي يمكن القول إن السودان مقبل على ربيع عربي ولكن بطريقة سلمية وبأقل الأضرار، وظهور السودان في شكل جديد متناغم مع الأنظمة التي افرزها الربيع العربي يشكل قوة اقتصادية ضخمة، فالموارد الطبيعية في السودان من الضخامة بحيث يعتبر السودان ثاني أغنى دولة في العالم من حيث الموارد بعد روسيا الفيدرالية. هذه الموارد مع الخبرة المصرية والتونسية ورأس المال الليبي، تجعل من هذا المربع السودان ومصرو ليبيا وتونس قوة اقتصادية ذات وزن بين اقتصاديات العالم المترنح. فصل جنوب السودان الذي أرادت به امريكا زعزعة الأمن في شمال السودان، اصبح مكلفاً للولايات المتحدة، وقد أعلنت أمريكا عن عدم دعم حكومة جنوب السودان، وقد بررت هذا الدعم بعدم وجود المؤسسية وانعدام الشفافية. لذلك نجد أن محاولات أمريكا للتنصل من جنوب السودان تتمثل في منح مواطني دولة الجنوب الحريات الأربع، وعودة مواطني جنوب السودان للشمال، مع استمرار النزاع الحدودي بين البلدين الذي يقود إلى حرب شاملة بين البلدين رغم كل ما يتم من اتفاقيات. قد يتفاءل المتفائلون بأن عودة مواطني جنوب السودان ربما تحدث بعض التغييرات في سياسة دولة جنوب السودان، وقد يتفاءلون اكثر يفجزمون بأن العائدين سيعتنقون الإسلام، في حين أن ما ينسب للإسلام في شمال السودان يحتاج لإعادة نظر فاحصة وتصحيح سلمي طويل الأمد. ما يفرق تفكيرنا من التفكير الغربي ان تفكيرنا وتخطيطنا نابع عن مجرد اشواق وأمانٍ لا تستند إلى دراسة تحليلية فاحصة، ونتخذ القرار بناءً على هذه الأشواق ونرجو أسلمة الحياة بقرار ننتظر فيه تلك الأسلمة بعد ساعة زمان. أما التفكير الغربي والتخطيط فإنه يعتمد على دراسات علمية وحسابات دقيقة تأخذ العوامل السياسية والاقتصادية والسايكلوجية للمجتمعات، وهي صبورة جداً في انتظار النتائج لا تستعجلها، وقد يطول الانتظار لنصف قرن أو أكثر، لكن النتائج تكون مضمونة بالنسبة لهم، على سبيل المثال بدأ التخطيط لفصل الجنوب قبل خمسين عاماً بالتمام والكمال، وجاءت نيفاشا في العام الفين وخمسة، أي بعد خمسين عاماً بالتمام والكمال من اندلاع حرب الجنوب. النظام المصري الأسبق ساعد على هذا، رغم أن اضطراب الأمن في السودان فيه خطر كبير على مصر، والعداء بين البلدين جاء في ضررهما سويا بنفس القدر. ويبدو أن أمريكا أدركت خطأ نيفاشا التي فرضتها على المحاور السوداني، ولكنها وضعت الحلول، فمركز Csis الذي وضع سيناريو نيفاشا، ذكر أن نهاية مطاف نيفاشا دولتين استبداديتين في الشمال والجنوب أو دولة منهارة. ولتفادي العقبات التي تعترض دولة جنوب السودان وضعت ما يعرف بالحريات الأربع وغيرها من البنود حماية لدولة جنوب السودان من الانهيار، فالسودان سيتكفل بإيجاد العمل وكل ما يحتاجه المواطن الجنوبي الذي أصبح عالة على الدولة الوليدة، هذا وقد اشتدت دعوات مجلس الأمن والضغوط على السودان لحل قضايا دولة جنوب السودان، بينما قضايا دولة السودان تصبح معلقة، وبين هذا وذاك تحصد الحروب الحرث والنسل وتزيد قضايا السودان تعقيداً على تعقيد. ومواطنو جنوب السودان الذين يهاجرون إلى إسرائيل يتم تدريب سبعين في المائة منهم على الأعمال التجسسية المتطورة، ويعاد تصديرهم إلى دولة جنوب السودان بل للسودان تحت بند الحريات والجنسية المزدوجة. وهذا العمل ليس موجهاً ضد السودان فحسب، بل موجه أيضاً إلى دول الربيع العربي في شمال إفريقيا، وضرب الكيان العربي ليس في الخليج ولا حتى في سوريا، وإنما في إفريقيا التي تمثل الثقل العربي سكانياً وعلمياً واستراتيجياً، كما يمثل شمال إفريقيا ثقلاً إعلامياً بجانب الثقل العربي، وزعزعة الأمن في السودان تعني وقف الزحف الاسلامي جنوباً، بل واستبداله بزحف معاكس من الجنوب إلى الشمال، فنجد أن السودان قد اكتظ بالأفارقة غير المسلمين من إريتريا وإثيوبيا، والآن جنوب السودان تنفيذاً لسياسة الإحلال والإبدال التي أعلنها جون قرنق في إطار تشكيل سودانه الجديد. ويدخل في المعركة ذلك الفيلم الذي يسيء إلى أفضل من خلق الله، إلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام. وقد استغلت امريكا خاصية المسلمين التي يمكن أن تتسامح في كل شيء إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان الاحتجاج الغاضب الذي لو تصدت له أنظمة الحكم وقادته لكان خيراً وأجدى، ورغم أن امريكا استغلت رد الفعل الغاضب إلا أنها وقعت في خطأ كبير، فقد كانت مواجهاتها مع الأنظمة تفرض عليها العقوبات وغيرها فتنصاع الأنظمة لتعليماتها، لكنها في هذه المرة اختارت العدو الخطأ فهي لا تواجه أنظمة يمكن أن تفرض عليها عقوبات إنما تواجه شعوبا غاضبة يصل تعدادها إلى مليار ونصف المليار، الأمر الذي يمثل خطراً داهماً على المصالح الأمريكية في كل العالم. توقيت عرض الفيلم جاء محدداً ليشغل المسلمين عما سيدور في سوريا، وبعد عرض الفيلم مباشرة قامت إسرائيل بمناورات غير معلنة في مرتفعات الجولان وبالذخيرة الحية فماذا يعني هذا؟!! يعني أن عدوانا يدبر في الخفاء على سوريا وجنوب لبنان ومن ثم على ايران بعد إضعاف سوريا بالحرب الأهلية والغزو الاسرائيلي، كما أن ضرب المقاومة اللبنانية يؤمن لحد كبير إسرائيل. إضعاف سوريا وتفكيكها مع المقاومة اللبنانية يجعل مصر وليبيا وتونس مع عدم استقرار الاوضاع في السودان في موقف ضعيف، وبإضعاف الثقل العربي في شمال إفريقيا يصبح كل العالم العربي في مهب الريح بعد ضياع العراق. ولم تندد بالفيلم أو الرسومات المسيئة أية دولة في اوربا، بل برروا ذلك بحرية التعبير، والدولة الوحيدة التي اتخذت قرارات إيجابية تجاه المسلمين كانت روسيا الفيدرالية. طلب النائب العام الروسي في بلاغ للمحكمة العليا منع عرض الفيلم، كما أن وزير الاتصالات تحدث عن امكانية منع عرضه على الانترنت عبر اليوتيوب. فالفيلم المسيء ليس الغرض منه الاساءة فحسب، إنما لاستغلال الغضب العربي والإسلامي في تنفيذ مخططات لوقف المد الإسلامي وحصره في الدول الثلاث، وبعد ذلك محاصرته بغرض القضاء عليه، وعملاء أمريكا لن يتوقفوا عن العمل للقضاء على المد الإسلامي، رغم ما يعقدون من مؤتمرات مفخخة.