يكمن الخطأ الأساس في منهج التفاوض الذي أدى لتعقيد سير المفاوضات بين السودان وجنوب السودان، وأطال من بقاء السيد رئيس الجمهورية ورئيس دولة الجنوب في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا كل هذه الأيام، يقبع هذا الخطأ المركزي والجوهري، في كيفية التعاطي مع قضية المنطقتين «أبيي» و«14 ميل»، الأولى هي جزء أصيل من ولاية جنوب كردفان وديار قبيلة المسيرية، والثانية تابعة لولاية شرق دارفور وبادية ومضارب لقبيلة الرزيقات... التعاطي الحكومي وما اتبعته الوساطة الإفريقية أدى لهذا التعقيد وإعاقة التفاوض، لأن قضية المنطقتين والتنازع حولها تنازع تحسمه الجوانب الفنية المتعلقة بالوثائق التاريخية والخرائط القديمة منذ العهد الاستعماري ووضعها الإداري والجغرافي والأهلي والحقائق على الأرض كما هو معيش وكائن. قضية من هذا النوع، تورّطت فيها الحكومة عندما لم تحصر معضلتها في هذا الجانب، وجعلتها عرضة للمساومات السياسية ورهنت حلها بالتقديرات التي تنبت في رؤوس المفاوضين وتصبح جزءًا من النقاشات والمناورات والتزيدات السياسية التي تقوم على معايير غير محددة يحكمها منطق الربح والخسارة وماذا أخذت وماذا ستعطي. لو اعتبرت الحكومة منذ البداية أن قضايا الحدود والمناطق المتنازع عليها، بعيدة من حلبة المناورة السياسية، لما تورطنا وأنفقنا كل هذا الوقت منذ نيفاشا في قضية أبيي النزاع الحدودي مع الجنوب قبل أن يصبح دولة وبعد أن صار ..!! ومن المحزن كما عرفت من مسؤول كبير سبق وأن قاد التفاوض مع الجنوب حول القضايا الحدودية وقضية أبيي خلال الفترة الانتقالية، أن الحكومة هنا في الخرطوم كانت ترضخ لرجاءات قيادات الحركة الشعبية كلما شعر الجنوبيون أن قضية أبيي أو قضايا الحدود توشك أن يتم التوصل فيها لنهايات ليست في صالحهم، يطرحون مواقف متشددة ويظهرون أكثر استمساكاً بمواقفهم خلال اللجان المشتركة أو التفاوض، ثم يطلبون من مفاوضي الخرطوم تقبُّل ذلك لاعتبارات سياسية في الداخل الجنوبي ولتهدئة الرأي العام المحلي عندهم.. حتى يتمكنوا من تجاوز العقبة .. وبالطبع تعطيهم حكومتنا الكريمة جداً ما يريدون من تأجيل للتفاوض مثلاً أو إدراج منطقة ما ضمن النقاط الخلافية .!!! فإدراج منطقة «14 ميل» ما كان ليتم أصلاً لولا تقاعس حكومتنا وقبولها منطق الوفد الجنوبي بأنه نقاش تبعية هذه المنطقة واعتبارها ضمن النقاط محل التنازع سيقلل من الاحتجاجات وروح الغضب والرفض لقبائل ومواطني غرب بحر الغزال ..!! وكان الجنوبيون يقولون: «دعونا نعتبرها مزايدة سياسية من طرفنا لمواطنينا ثم نتجاوزها بعد ذلك..» وتقبل الحكومة وتتنازل حتى «يتشنّق ود أب كريق في السوق» .!!! فمن الخطير جداً نزع ملف التنازعات الحدودية من سياقه، كونه يتعلق بنزاع تحسمه القوانين والحقائق التاريخية والقانون الدولي والخرائط والحدود الدولية المعترف بها، وجعل هذا الملف ملفاً سياسياً محضاً خاضعاً للاستمزاج والترضيات والتنازلات ومنطق «أديني هنا وأديك هناك»..!! ما يجري الآن هو خطأ مركب... قبلت الحكومة بنهج التسويات السياسية والمساومات، فتارة في إطار التحشيد والتعبئة ونفخ البالون السياسي تحشد القبائل من أهل المناطق الحدودية المتنازع حولها، وتجرجرهم إلى المفاوضات، ثم تزيحهم تارة للتفاوض بالنيابة عنهم دون أن تتوصل لحلول مرضية لهم، فالدولة في رشدها السياسي، لا تقحم سكان الأرض في مثل هذه القضايا المصيرية المتعلقة بأهم واجباتها كدولة وهي الحافظ على التراب الوطني وحدود البلاد. فتأرجح حكومتنا ما بين المعالجات الظرفية والتقديرات السياسية والتطمينات القبلية، وبين الحقيقة الناصعة أن نزاعات الحدود لها طرق واضحة لحسمها، هو الذي أوردنا هذا المورد وجعل ما يجري في أديس أبابا شديد القتامة ولن يرضي أحداً من أطراف المعادلة. ونكرر هنا للمرة الألف قولاً حول خطورة المساومة السياسية في معالجة قضايا الأرض والحدود، بعد نيفاشا وإقحام أبيي في ملف التسوية السياسية، قال الفريق مهدي بابو نمر أحد أبرز رموز المسيرية «ستكون أبيي القندول الشنقل الريكة»....!!!! ما هو وضع «الريكة» التفاوضية الآن..؟؟؟ ---- الرجاء إرسال التعليقات علي البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.