مثلما كانت الحكومة تظهر حرصاً على الوحدة قبل الاستفتاء ليس لأنها كانت تأمل فيها أو ترغب ولكن لأنها كانت شرطاً أممياً في اتفاق نيفاشا يفرض عليها أن تردده صباح مساء وإلا العقوبات ألا وهو (أن يعمل الطرفان على جعل الوحدة جاذبة) كذلك الآن تقبل ببتر الحريات الأربع لأنه حاضر وبقوة في القرار 2046 لمجلس الأمن الأخير وهو الرقم الأول الذي يعوّل عليه الخرق لتعقبه العقوبات على السودان وليس الجنوب ولذلك كان لصيقاً تماماً مع اتفاق النفط ووضع مقابلاً له ومقرونًا معه.. ولذلك ولأن الشعب السوداني ولأسباب كثيرة وتجارب مريرة مع شعب جنوب السودان أصبح ليس لديه أي قابلية لتقبل أي علاقة خاصة مع الجنوبيين حتى ولو كانت في مصلحتنا.. وهي حالة نفسية نتيجة لعراك مديد وحروب متطاولة ومرارات واستفزازات آخرها احتلال هجليج لإلحاق الأذى بالشعب السوداني ويدعم ذلك أيضاً أنه لم تكن بيننا وبينهم من الاجتماعيات ما نبكي عليه.. ولو نظرنا لحظتها لوجه السيد الرئيس وهو يوقع مع سلفا كير على بند واتفاق الحريات الأربعة لوجدته مكفهراً رغم الابتسامة الورقية ولكنه كيد الخائنين الذي يجعله يتعوذ متمتماً من غلبة الدين وقهر الرجال ويعمل بقوله تعالى (.. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) متذكراً أيضاً وهو يوقع قوله تعالى (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ..) فإن الرئيس الذي رفض قبل ذلك حريات د. نافع الأربع لم يعدله عن ذلك إلا الشديد القوي.. فمجلس الأمن ومن خلفه الشيطان الأكبر يقصدون تماماً وضع مطلب الحريات الأربع في كفة واحدة مع اتفاق النفط واستئناف تصديره.. كما يعلم سلفا كير تماماً أن الحريات لم تكن يوماً من أولويات أهل الجنوب ولا اهتماماتهم وقد اختاروا طوعاً الانفصال وبنسبة مائة بالمائة.. ولكنها المكايد الدولية والمصالح والابتلاءات التي وعدنا الله بها. فأصل المسألة أن أمريكا وصويحباتها تحاول منذ الأزل أن تظل الحركة الشعبية غصة في حلق شمال السودان المسلم وعندما فشلت كل مساعيها وذهب دعمها للحركة بالمال والعتاد صداً عن سبيل الله كما يقول تعالى (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ..) فعندما خسرت أمريكا دعمها الأخير لقفل أنابيب ضخ البترول عبر السودان لإسقاط نظامه خلال شهرين حسب تخطيطها ودراساتها وردّ الله كيدها.. جاءت لتطلب من الحركة نفسها إعادة التصدير لعجزها عن النفقة وهي تعلم أن في ذلك فتحاً لحكومة الشمال فأتبعت ذلك الاتفاق بشرط مقابل وهو الدفع بمطلب الحريات الأربع في وجه السودان لتنقص عليه حياته أو على أسوأ الفروض العمل بفقه سهر الجداد ولا نومه» فدفعها وإصرارها على هذه الخوازيق الأربعة لتحقيق إحدى المكيدتين.. الأولى: إن وافقت الحكومة على هذه الحريات وهي تعلم أنها عليهم كالعلقم ضمنت أن موافقتها هذه ستجلب عليها السخط الشديد والغضب من غالب أهل السودان لأنها تعلم أن أبغض الأشياء على الشعب السوداني الآن العودة إلى مربعات تمرد توريت وأحداث قرنق الأخيرة وغطرسة باقان.. وهو المطلوب لأمريكا وكذلك هو الحادث الآن فعلاً.. فما وجدت مجلسًا هذه الأيام إلا وهو ساخط على هذا البند بالتحديد مع موافقته التامة على كل ما سواه مع أن هذا السخط ليس له أي مبرر موضوعي إلا الخوف والارتداد إلى عهد الغدر والخيانة.. أما المكيدة الثانية إن هي رفضت هذا الاتفاق سلطت عليها أمريكا كلابها من إنس وجن مجلس الأمن ليصموها بخرق الاتفاق مع الجنوب في موعده وبنقض القرار 2046 ليضعوا عليها أقصى العقوبات لتتولى أمريكا التنفيذ لتعيدنا إلى العصر الحجري كما فعلت بالعراق وبدون قرار من مجلس الأمن ولا تفويض.. ولن ينفعنا حينها إلا وعده تعالى (.. وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وكذلك عمل السيد الرئيس بالآية (.. إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً..) هذا من جانب عدم الرغبة أصلاً أما من جانب مصلحتنا قوله تعالى (فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا). ففي هذه الحريات بعض ما يحتاج إليه أهلنا المسيرية لأن أكثر من مليونين منهم يستطيعون بهذه الحريات أن يعبروا بأبقارهم سنوياً إلى داخل العمق الجنوبي متى شاءوا خلالها وإن لم يفعلوا هم فعلت أبقارهم بإرادتها وهم مضطرون لاتباعها.. أما من الجانب الآخر فلن يأتي إلينا أحد من دينكا نقوك أو غيرهم للظروف الطبيعية.. ومثل ذلك أو قريباً منه كان في اتفاق الحديبية. ثانياً جانب التملك، فحركة التنقل والامتلاك لأهل الشمال متاح أكثر وأكبر من الجانب الآخر وذلك لقدرتهم على الإنتاج وانفتاح السوق هناك ومجال الاستثمار في أرض الجنوب يدر على بلادنا العملات الصعبة والنهوض بالاقتصاد.. وكذلك فإن مجال العمل والعمالة متاح لنا أكثر منهم لخبراتنا الطويلة ومؤهلاتنا بعكس أهل الجنوب تماماً فالذي سيأتينا منهم لن تتجاوز خبراته وإدراكه ومعرفته عمالة المباني والبياض والردميات لأن المتعلم منهم ولو بفك الخط فقط سيكون مسؤولاً هناك ومرتاحًا مادياً أكثر منا خاصة إذا علمنا أن دخل الفرد في الجنوب عند استئناف التصدير سيكون أكثر من ثلاثة ألاف دولار في العام حيث إ إنتاجهم من النفط حوالى «350» ألف برميل في اليوم وعدد سكانه الآن والموجودون بالجنوب حقاً لا يتجاوز الأربعة ملايين نسمة.. وهذه العمالة التي تأتينا إن وجدت فلن يستطيع أحدهم أن يمتلك شيئاً ولو في أطراف الولاية البعيدة ولن يستطيع أن يتنقل ناهيك أن يمتلك هذا إضافة إلى أنه سيفقد أهم ميزات استقراره التي كانت متاحة له أيام الدولة الواحدة ألا وهي السكن العشوائي بين المساكن والأحياء ذلك إضافة إلى عدة عراقيل ستواجهه منها تسجيل الأجانب وهويته وعمله وأسباب وجوده وحركته وكل ما يتعلق بالإقامة وكل ذلك إذا مرت بسلام من مناقشات البرلمان وتفاصيل تنفيذها وتوضيحاتها التي لم تتم حتى الآن فشيطان التفاصيل هذه المرة عندنا كلكي!! وحتى لو أراد الفني منهم أن يمتلك فلن يأتينا هنا في الخرطوم وإنما سيذهب حيث تتاح الغواني والخمور في باريس أو برلين أو الحد الأدنى في نيروبي. وبالتالي فإن كفة مصالحنا في ذلك الاتفاق أكبر وأقلها فرارنا من كمائن الأعداء أفضل من مواجهة أعاصير يمكن تفاديها دون التنازل عن ثوابتنا.. ولعل الله يجعل لنا في ذهاب قطاع الشمال عزاءً وهذه بتلك فإن مسنا قرح فقد فقد الجنوب أكبر آليات إيذائه لنا ونسيانه رفقاءه بجنوب كردفان والنيل الأزرق.. فقدر أخف من قدر «ولعل الله يحدث من بعد ذلك أمرًا». والحمد لله رب العالمين من قبل ومن بعد.