كلما قرأت لمحمد لطيف في تحليله السياسي بصحيفة «السوداني» هذه الأيام، خاصة ما سطره الأسبوع الفائت وسخر جله للهجوم على هذه الصحيفة وكتابها، تقفز أمامي صور من تاريخ سحيق وآخر قريب وواقع يعاش. أول هذه الصور، ما قرأناه عن الشعراء الجوالة في العصور الوسطى بجنوبفرنسا وعند سهوب ومرتفعات قشتالة وسرقسطة وكتالونيا في أسبانيا، المعروفين ب «التروبادور»، وهم شعراء محترفون يلتصقون بالقلاع والقصور ويتغنون بقصائدهم لتسلية ساكنيها وتزجية أوقاتهم ويتقبلون عطاياهم ويتقربون زلفى لهم ويفرحون للثمن المقبوض وندى كل راح. والصور الثانية للحكامات في بطاح كردفان ودارفور عند قبائل البقارة، وهن نساء شاعرات بالسليقة، ينظمن قصائدهن في شتى الضروب وتسير بها الركبان وتتناقلها الألسن، يخفضن بها علية القوم إن أردن ويرفعن بها الوضيع إن شئن، لكنهن لا يبعن شرفهن الشعري مهما كان رنين الذهب في أيدي خصومهن. والصور الثالثة، لسانشو بانثا، تابع دون كيشوت في رواية ميغيل دي ثيربانتس الصادرة في 1605م، التي تحكي عن الفارس الذي غلبه الوهم فحمل كل أسلحته ودروعه وخوذاته وطفق يحارب طواحين الهواء ويتوهم عدواً ما من ملاقاته بد!! وسانشو هذا خادم مطيع لسيده يسديه النصح ويحاول تخفيف ما يصيبه من إخفاق بلا جدوى.. لكنه يجمع من الخيبات ما يجمع!! ولمحمد لطيف عبقرية باهرة في حرفة الالتصاق السياسي، وتلك خاصية لم يكتسبها فقط من تجربته بوصفه كادراً من الدرجة العاشرة في الجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي، وكأيدولوجي صغير يعابث الأفكار الكبيرة كما قال الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم.. بل زاد عليها من تجاربه الأخرى الخاوية التي علمته في نهاياتها اختطاف السوانح وانتهاز الفرص، ورادف عليها ولعه الجنوني في العيش تحت ظلال الآخرين مثل أي نبات ظلي أو نبتة متسلقة تتسور كل حائط ومحراب وتطل من كل باب. وتوجد خاصية أخرى، لا تتوفر إلا لدى السناجب البرية، لكنه استدعاها لتكون جزءاً من تركيبته العامة وكيمياء حياته اليومية، أن يقفز من فشل إلى آخر دون أن يطرف له جفن أو يتوارى خلف حصائده الذابلة.. فكل تجاربه المهنية في الصحف فاشلة بمدى أفق الفشل الممدود، فبالرغم من استفادته من خصائصه الأخرى في التكسب والتزلف للسلطة لجلب المال، فصحيفته «الأخبار» التي شيدها وبناها على وهم مثل وهم دون كيشوت، عاشت حتى حتفها، على عطايا كبار المسؤولين له ومساعدته إياهم، وكان يتفنن في استدرار المال من ضروع وأثداء السلطة، فعندما تعرَّف على مولانا أحمد هارون مثلاً، منذ وزارة الداخلية ووزارة الشؤون الإنسانية حتى ولاية جنوب كردفان، كان يقدم تصورات ويتبنى ندوات وسمنارات وعينه مصوبة على الميزانيات المخصصة لهذا العمل، ويتأبط لافتاته الجاهزة سواء أكانت «طيبة برس» أو صحيفة «الأخبار» التي ذبحها عند نصب المطامع، ولم تبخل عليه الوزارتان ولا الولاية في تمويل برامجه الهواء.. مثلما كان يتلمظ شاكياً منتحباً من ظروف مؤسساته الكثر لدى وزير الدفاع حتى يخجل الرجل فيتجود عليه.. أما كيف باعها وتخلص منها فتلك قصة أخرى، كما يقول الطيب صالح!! ثم أنه تعفر حتى أغبر قلبه وتغبش، بعلاقاته مع المنظمات الأجنبية وبعثات الأممالمتحدة التي كان يقدم لها التصورات وطلبات الدعم والتمويل، وبالوعة طمعه لم تمتليء بعد. لكن أهم ما في الرجل أنه يلبس لكل حالة لبوسها، ويتبرع ليخوض للآخرين معاركهم ومواجهاتهم ويتبنى مواقفهم، فالحكومة الحالية، ليس له في راكوبتها قشة، فيتزيد على أهلها ليكون كاثوليكياً أكثر من البابا!! وهو في قرارة نفسه وفي جلساته واجتماعاته مع المعارضين والمنظمات وممثلي السفارات وخلال حفلات الاستقبال للسلك الدبلوماسي، يدعي معارضته للنظام وأنه صاحب موقف منه، ويتحقق ذلك بغريب فعل وممارسة، فهو يدير المنتدى الدوري في منزل الصادق المهدي ويلعن «أبو خاش الحكومة» ثم يشد الرحال مساءً إلى بيت الضيافة في معيَّة عبد الرحيم محمد حسين!! غير أنه يتلذذ لمصاهرته أسرة الرئيس بلقب يطلقه عليه بعض أصدقائه «الصهر الرئاسي» فيطرب له وينتفش وينتفخ كأنه بلغ الثريا!! وظن السيد محمد لطيف أن مخاوفنا من بعض الاتفاقيات الموقعة في أديس أبابا مع دولة الجنوب ومعارضتنا للحريات الأربع، ستكون هي مدخله الأثير لأرباب السلطة وأصحابها، ليتولى عنهم معركتهم المقدسة ضد هذه الصحيفة وكل من يعارض هذه الاتفاقيات، وهذا شأن سياسي يختلف حوله الناس ويشتجرون.. لكنه لا يريد تفويت هذه الفرصة، ليكون «ساموراي» مخلصاً لوفد المفاوضات، أو يجعل من مقاله ريشاً من ريش البجع في البحيرة السياسية.. وقد يرقص الباليه العتيق لتشاوكوفسكي وهو على مسرح اللامعقول. --- الرجاء إرسال التعليقات علي البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.