لا يوجد على ظهر البسيطة خلط في المفاهيم مثل الذي يحدث في السودان.. ومن الواقع لم يوجد خلط في المفاهيم ولم يُعهد مثل هذا القدر من التخبُّط عند أهل السودان قبل الإنقاذ. لأول مرة يُعتبر التمرد في تاريخ البشرية إنجازاً.. ولأول مرة يُعتبر المتمرد بطلاً قومياً.. بل ويكرَّس قائداً وطنياً.. ورمزاً.. وقامة.. وقمة.. والعجيب الغريب أن المتمرد لا يُعتبر بطلاً ورمزاً عند أهله وعشيرته وقبيلته فقط.. كلا.. ولا عند الخواجات الذين دعموه بالمال والسلاح والخطط والمستشارين بل هو يعتبر بطلاً وزعيماً ونابغة وعبقرياً عند أعدائه الألداء وخصومه الأشداء الذين شهر في وجههم السلاح وقتل منهم ما شاء الله له أن يقتل ودمر لهم من البنيان ما شاء الله له أن يدمر وبالرغم من كل ذلك يفاوضونه ويقبلون الوساطات والأجاويد ولا يكون الوسطاء والأجاويد إلا الداعمين للتمرد وعرابيه ومخططيه ومموليه والمستفيدين الوحيدين منه في حالة الحرب وفي حالة إنهاء الحرب.. إن حكومة الإنقاذ رمى الله في عينيها بالقذى وسدّ آذانها بالقار حتى أصبحت لا تبصر ولا تسمع ولا تعي أن حصول المتمرد على وظيفة دستورية لا يعني إلا انتصار الباطل وانهزام الحق. إن أول انهزام للإنقاذ كان يوم جاء جون قرنق نائباً أول لرئيس الجمهورية.. إن هذا الرضوخ كان يعني شيئاً واحداً.. هو أن الإنقاذ اعترفت اعترافاً كاملاً بصدق جميع الاتهامات التي رددها جون قرنق ورددها المتمردون قبله.. ولكن الحمد لله فإن اعتراف الإنقاذ هذا لا يشبه إلا اعتراف أحد الطرفين بالزنا.. حيث يُقام الحدّ على المعترف ولا يُعد اعترافه بيِّنة على الطرف الثاني ولكن الإنقاذ لم تنتبه إلى أنها أوقعت نفسها في حلقة مفرغة من التمرد.. والمصالحة.. وانقسام السلطة.. إن الإنقاذ أصبحت تسعى لإغراء كل متمرد بمزيد من المكاسب.. بل إن الإنقاذ أصبحت تزاود على نفسها وتُغدق وتعطي بلا حساب.. وبلا منّ ولا أذى.. والحمد لله أنه كان بين متمردينا أناس مساكين مثل جون قرنق ومني أركو مناوي الذين رضوا بل فرحوا بمنصب نائب أول.. وكبير مستشارين.. وهلم جرا.. ولو لم يكن متمردونا مساكين وبسطاء وعلى قدر عقولهم لسمعنا في زمن الإنقاذ العجيب بالنائب الأول «أ» والنائب الأول «ب» والنائب الأول «ج» والنائب الأول «د» وربما انتهت المتتالية في ابجاد إلى قرشت أو تخذ أو منظغ. أما المستشارية فربما صُنِّفت إلى أكبر المستشارين وكبيرهم ووسطهم وأوسطهم وصغيرهم وأصغرهم وهكذا إلى أن تصل إلى مستشار في حجم النملة أو الريشة أو الديك.. والآن نسمع بالأمس أن العدل والمساواة وقّعت اتفاقًا مع الحكومة في قطر ولا أدري حتى هذه اللحظة أي عدل ومساواة وأي حكومة.. فالعدل والمساواة منشقة ومتشققة ومنقسمة ومقسمة.. والحكومة لم يعد لديها ما تُتحف به عباقرة التمرد الذين يتمردون بالجملة ويصالحون بالتقسيط وبالقطاعي.. إن على الإنقاذ أن تطمئن وتنام في العسل بأنها هي صاحب أكبر إنجاز في تاريخ السودان.. إن الإنقاذ بمواقفها من حركات التمرد ومن الداعمين والتي اتّسمت بالخوار والانبطاح والانكسار وغياب الرؤية وغياب قيم أخرى كثيرة.. بمثل هذا العمل فإن أكبر إنجازات الإنقاذ هو القبلية والجهوية والعنصرية.. ولا يضاهي هذا الإنجاز إلا شهادة البراءة التي أصدرتها الإنقاذ بحق التمرد.. وهو أن التمرد درجة من الوطنية والعبقرية تؤهل صاحبها للحصول على مناصب دستورية بدون شهادات وبدون خبرة عملية.. وبدون حد أدنى أو أعلى للسن.. بل بدون سند شعبي حقيقي يُعتمد عند الاختبار والفحص.. إن الإنقاذ اليوم انشغلت بالكرسي.. وتركت الحكم فذهب الحكم.. واهتز الكرسي.. ولو أن الإنقاذ انشغلت بالحكم ولم تهتم بالكرسي.. إذن لبقي الحكم وثبت الكرسي.. إن الإنقاذ اليوم تجلس على الكرسي كما يقف خيال المآتة وسط الحقل.. كلاهما يستثمر الوهم والخوف القديم.. والإنقاذ تتوكأ على منسأة اسمها التديُّن.. ومنسأة الإنقاذ أكلتها دابة الفساد ودابة الدغمسة ودابة الانبطاح.. ودابة العلمانية.. وكثير من الدواب.. فهل ستخرُّ الإنقاذ على وجهها أم سوف تنتبه؟! لقد كان التمرد منذ أيام وليم دينق وأنيانيا «1» مجرد لعبة حظ وشختك بختك، فالمتمرد الجنوبي ليس مطمئناً حتى إلى أهله وذويه وأقاربه في ذلك الزمان.. ويعارضه ويتمرد على تمرده أقرب الأقربين إليه.. وربما أهل بيته، أما اليوم فإن التمرد شبّ وترعرع ودب ودرج في عهد الإنقاذ وتحت رعايتها.. وأصبح للتمرد اليوم منهج يمكن أن يدرس في الجامعات.. وتعد فيه الأطروحات ومما يدل على أن التمرد في عهد الإنقاذ شبّ عن الطوق واستوى عوده.. أن التمرد لم يعد جنوبياً.. بل أصبح التمرد شمالياً.. وحتى أزيدكم وضوحاً.. فقد أصبح التمرد إسلامياً.. ولا يعني ذلك أن الإسلاميين في السودان تمردوا من أجل الإسلام هؤلاء لما يتمردوا بعد ولكنه يعني أن التمرد أصبح يضم بين جناحيه مسلمين.. لا بل إسلاميين.. نعرفهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وكنا نقباء عليهم.. وهم اليوم أعضاء في حركات التمرد بل قيادات.. وناطقون رسميون.. إن انفصال الجنوب لا يؤرق أحداً من أهل العلم والفقه والمعرفة والذين يتباكون على الجنوب وعلى وحدة السودان.. كان أحرى بهم أن يبكوا بالدمع الهتون على الخلافة وعلى وحدة الأمة الإسلامية.. إن الجنوب لا يزيد على قلامة ظفر في المواجهة الكونية القادمة بين الإسلام.. ودولة الشيطان.. وعلى الإنقاذ أن تُعيد النظر وتعرف وتتأكد.. وتختار.. في حبل مَن تحطب!! سؤال