انطفأت جذوة الحياة في الجسد، وصعدت الروح الطاهرة النقية إلى بارئها وسكنت إلى رحابه العلي، رحل العالم العابد المخبت البروفيسور أحمد علي الإمام، حياة لا تضاهيها حياة تلك التي عاشها بالقرآن ومع القرآن وعُرف به وخالط روحه ودمه من مهده إلى لحده. ولد الراحل الكبير في موئل قرآن كريم وعلم وفقه، في مدينة دنقلا بالشمالية في منتصف عام 1945م، وطرقت التلاوة وترتيل القرآن الكريم ومسائل الفقه أسماعه وهو غض في مرقده، وحفظ كتاب الله وهو يافع فتى، وتجسدت معانيه في كل حركاته وسكناته كما يقول أترابه في مراحل دراسته الأولية والمتوسطة، ثم التحق بالمعهد العلمي بأم درمان، وكان منارةً بين الطلاب لتعلقه بكلام الله، وتفتح ذهنه وعقله على مسائل الفتيا والأقضية الفقهية المختلفة، وكان بين أقرانه وزملائه سهماً سديداً من سهام العلم والفقه والمعرفة الدقيقة بعلوم القرآن الكريم. ودرس في جامعة أم درمان الإسلامية وتخرج فيها عام 1971م، وعمل معلماً في المدارس الثانوية لمادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية، وانتقل في إطار العمل الدعوي إلى العمل بالكلية الإسلامية في زنجبار بتنزانيا، وأسهم بقدر كبير في تقدم واتساع دائرة العمل الإسلامي، وعرف مجتمعات المسلمين في دول شرق إفريقيا، وأجاد هناك اللغة السواحلية ولغات أخرى، ثم غادر إلى المملكة المتحدة للدراسات العليا، ونال درجة الدكتوراة من جامعة أدنبرا، وكانت رسالته تعالج مسألة عميقة في التاريخ والفكر الإسلامي، في نقد أعمال المستشرقين حول لغويات القرآن الكريم وتاريخه، ونشط في مجالات الدعوة الإسلامية في بريطانيا وإيرلندا، وتذكر له مواقف وأعمال جليلة مشهورة ومشهودة بين الجاليات المسلمة في إنجلترا واتحادات الطلاب المسلمين في الدول الغربية، واستوعب محاضراً في جامعة أدنبرا ومديراً للمركز الإسلامي هناك، ورئيساً لاتحادات الطلاب المسلمين وطلاب الدراسات العليا في تلك الفترة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وعاد للسودان محاضراً بالجامعة الإسلامية بأم درمان عام 1979م، وظل شعلة متقدة من النشاط والهم الإسلامي، وفي انتخابات الجمعية التأسيسية عقب الانتفاضة الشعبية التي أطاحت نظام مايو انتخب في البرلمان، وكان من أبرز الدعاة إلى الله على بصيرة. وبعد قيام الإنقاذ تولى مع آخرين تأسيس جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية وكان أول مدير لها، وتولى منصب الأمين العام لهيئة علماء السودان، ثم مستشاراً للرئيس لشؤون التأصيل لسنوات طويلة. وعُرف عن الرجل علمه الواسع ومثابرته وجهاده في سبيل الدعوة، فقد كان من أهم أعلام الأمة الإسلامية في علوم القرآن الكريم وقراءاته وتفسيره، وهو بحر لا ساحل له في هذا المجال، ومن خلال مشاركاته في العديد من المؤتمرات العلمية والإسلامية والعالمية احتل مكانة مرموقة وسط علماء الأمة الإسلامية، خاصة أنه زاوج ما بين العلوم الإسلامية ومعارفها والعلم الحديث ودراسة الأديان المقارنة. وصدرت له عدة كتب ومؤلفات في علوم القرآن وآدابه والفقه والتأصيل والفلسفة الإسلامية. وكابد المرض فترة طويلة لكن قلبه الذاكر لم يغفل، زرناه في مايو الماضي في مستشفى «فيفانتس» في العاصمة الألمانية برلين مع الأخ العزيز خالد موسى دفع الله نائب السفير والأخ كرم الدين القنصل العام، فوجدناه رغم المرض طاهر الجنان ورطب اللسان. وكل الذين عرفوه وعاشوا معه، عرفوا فيه قيمة وميزة العلم والعلماء وفي مقدمتها التواضع لله وخفض الجناح للناس، فقد كان الشيخ أحمد علي عارفاً بالله على يقين وإيمان، وزاهداً في بريق الدنيا وبهرجها على يقين أنها دار ممر وليست دار مقر، يعمل فيها أعمالاً صالحة ثم يغادرها على وعد غير مكذوب من رب العالمين. لذلك شيعته الآلاف أمس في الخرطوم، والقلوب حزينة والأعين دامعة والأكف في ضراعة لله أن يتغمده برحمته وغفرانه، فقد تجمع حول قبره كل أهل السودان من كل مشرب ومنبت واتجاه، فجلال القرآن لرجل قرآني كان هو مهوى كل قلب بكى عليه، وكل دمعة سالت تواسي من يبكيه، وكل دعاء صادق جرى على الألسن ترحماً عليه. ومثله لم يرحل، فما انقطع عمله، وعلمه الذي ينتفع به ثقيل الوزن في أي ميزان، وجلائل أعماله ستشهد له عند مليك مقتدر، والأبرار من أبنائه وتلامذته وإخوانه سيدعون له.. فمرحى له هذا الختام الحسن. --- الرجاء إرسال التعليقات علي البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.