الكتاب صور حيَّة من التراث السوداني وإضافة في المكتبة السودانية، فهو يتميَّز بطريقته في التوثيق وينبش في الذاكرة القديمة متخذًا من تدوين الرواية الشفهية مدخلاً لعرض التراث بشكل أدبي متميِّز بأسلوب الكاتب، كان لنا لقاء مع مؤلفه الدكتور (حيدر وقيع الله) وهو واحد من الباحثين الشباب ويقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة، وله إصدرات متنوعة منها (الإبداع الأدبي) و(مشكلات القراءة والشباب والشبكات الاجتماعية)، قدم للكتاب االبروفيسور يوسف فضل حسن الأكاديمي السوداني والعالم المعروف الذي نوه بأسلوب الكاتب وتناوله لموضوعات كتابه.. كلي: المنطقة (موضوع الكتاب) أخذت اسمها من معنى الساقية، باللغة النوبي (كالي أو اسكالي) وهي تسمية قديمة ومنطقية حدثت منذ أقدم الأزمان لمنطقة كلي.. يقول المؤلف إن مادة الكتاب معظمها جمع من خلال الجلوس مع المراجع الشفهية وكبار السن بالقرية واستنطاق التاريخ والغوص في ذكراة القرية العميقة التي تدور وتزدحم بالأحداث والمواقف فتم رصد ما غاب عن ذاكرة الجيل الجديد الذين تفاجأوا برجال كلي الشجعان الذين هاجروا لنصرة ثورة المهدي في غدير، والرجال الذين شاركوا في معركة أبي طليح ومعركة بربر ومعركة توشكي، ومعركة النخيلة، ومسجد كلي الجامع الذي تمر عليه اليوم خمسة عشر عامًا بعد المائة على تأسيسه الحديث غداة الزيارة الشهيرة للقاضي والعالم الكبير مدثر الحجاز لأرض كلي.. هذا إضافة إلى الفانتازيا التراثية التي وفت وجسدت المعالم من المناطق والأحياء القديمة والدروب التي ما بقي منها شيء والمترات والسواقي والهجرات والآبار والمطاحن والأفراح والمناسبات وغيرها. الكتاب: تقوم الفكرة الأساسية للكتاب على جمع الصور التراثية التي قامت أو ارتبطت بشكل من الأشكال بالمفهوم الواسع للإبداع الإنساني، ويمكن أن نلمح ذلك في وجوه وشخصيات الكتاب التي صورنا ودونا ما أسهمت به على المستوى الوطني والسياسي والاقتصادي والإبداعي بشكل عام، ومن هذه الوجوه يذكر الكتاب (أبو جديري) عمدة كلي (علي ود سعد) الرجل الذي اشتهر بالحكمة والدهاء، وهو الرجل الذي يحتل غلاف الكتاب وهي صورة حقيقية تعود إلى الثلاثينيات من القرن الماضي، وفي المجال الإبداعي محمد علي جبارة الشاعر المبدع الذي كانت قصائده بمثابة كلمة السر التي تجعل المطرب محمد الأمين يعتلي القمة، والمطرب الشهير السائح ود حمد في قائمة أوائل من تصدوا للعمل بالفن في منطقة الجعليين.. والطيب محمد الطيب الأديب وموثق التراث السوداني يرى أن إبداع سعد ود بانقا وسبقه الكبير يدخل تاريخ الأغنية السودانية من باب الحداثة والتجديد، ويزيد على ذلك فيقول: «إن أهل كلي قد عرفوا قديمًا وحديثًا وحاضرًا بالشفافية الفنية، ولهم مساهمة في هذا الميدان».. وفي موكب العشق النبوي يصدح ود صالح ذلك الراوي الذي طبقت شهرته أرجاء السودان وهو يعطر بكلمه الطيب حلقات الذاكرين والمحبين: الصلاة والسلام بالفرد والزوج ما هبت رياح وتماوج الموج ود صالح رماه الدهر بالعوج اتحفو بالقناعة وأقضي للحوج إنها هدايا للأجيال ستحتفي بها يومًا لطالما أني أؤمن مع كثيرين بأن نبش الموروث الشعبي يغذي شعور الانتماء والاعتزاز بالأصالة ويشجع العزائم على الجديد وإعطاء المزيد. قصص وأساطير: هي جزء من الموروث الشعبي المحلي وأتى الكتاب بما تواتر منها وارتبط بالمنطقة على وجه الخصوص، يقول الكاتب القصص والأساطير جزء من ذاكرة القرية ترد على سياق التربية والسمر والأنس وبعضها حقيقة عايشها أهل القرية في حقب مختلفة وبعض وجدناه عالقًا في ذاكرة القرية.. المرأة في المنطقة: تتبع الكتاب من خلال فصل العقد الفريد سيرة النساء اللائي اشتهرن بمقدرات ومهارات خاصة لا يسنح الدهر بتكرارها، بعد أن وضعن بصماتهن في ذاكرة القرية، أو ممن عرفن بحذق صناعة معينة أو ممن اشتهرن بوعي سياسي أو فقهي كبير كما سلط الكتاب الضوء على بعض الظواهر النسائية في القرية مثل بنات الفكي التسع اللائي تزوجت كل منهن زوجين اثنين، ثم الأسماء المتكررة وغيرها من القصص التي أبطالها من النساء، كما أورد الكتاب فنون النساء المغناة من أهازيج المدح النسائي فيما يعرف بالمراثي والمنائح والشاعرة الكبيرة برة بت الأمين، ثم أهازيج الكرامة وغيرها.. فالكتاب كما يقدمه البروفيسور يوسف فضل رائع يعج بفصول تتناول الظرف والظرفاء وألعاب الطفولة والأحداث الأسيفة التي هزت مضجع القرية وغير ذلك من الفصول الممتعة.