صار من المعتاد أن تحمل الصحف من حين إلى آخر أخبار تظاهرات المواطنين جرّاء رداءة الخدمات سواء كان ذلك في الولايات أو حتى العاصمة الخرطوم، وربما كانت الجزيرة من أحدث الولايات التي انخرطت في هذه المنظومة الاحتجاجية، خاصة وأن إنسانها لم يعرف عنه العنف بوجه عام، فقد خرج مواطنو منطقة ود الحداد جنوب الجزيرة في اليومين الماضيين احتجاجاً على الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، الذي امتد لعدة أشهر بحسب الصحف دون أن تجد شكوى المواطنين أدنى استجابة من الجهات المسؤولة، وتطورت الأحداث بقطع الطريق القومي سنار مدني لمدة سبع ساعات، مما أدى لتكدُّس مئات المركبات العامة والخاصة، وبالتزامن مع تلك الأحداث شهدت قرى شرق الجزيرة تظاهرات أدت لإغلاق طريق المرور السريع الرابط بين الخرطوم مدني وشرق النيل، وأحرقوا ثلاث طلمبات ضخ للمياه تابعة لمشروع زايد الخير الذي يعتمد زراعة الأرز، احتجاجاً على قيام المشروع الذي تسبب في تكاثر وانتشار البعوض بسبب ركود المياه حسبما تحتاج زراعة الأرز، ونجم عن ذلك انتشار أمراض الحميات وأمراض الملاريا والتايفيود، الملفت في الحادثتين أن أسبابها تتمحور في ضآلة التنمية ووجودها، ففي حين تشكو قرى ود الحداد من تذبذب الكهرباء، تجيء شكوى شرق الجزيرة من انتشار الأمراض جرّاء تراكم المياه في مزارع الأرز التي تعود لمشروع «زايد الخير»، فالإهمال هو العنصر المشترك للحادثتين، فالاحتجاج ضد مشروع الأرز قد لا يساعد مستقبلاً في جذب المشاريع الاستثمارية للمنطقة أو الولاية عموماً، طالما أن المواطنين يحتجون عليها، وهنا يبرز تقصير الجهات المسؤولة عن أداء دورها المكلفة به، فعندما يجيء تصريح معتمد محلية شرق الجزيرة عمر محمد بخيت بأنهم احتووا الأحداث بإصدار التوجيهات القاضية برش المنطقة بالطيران توحي بأن المعتمد كأنه كان بانتظار خروج المواطنين للشارع ليصدر أوامره تلك، وبينما صرح نظيره معتمد ود الحداد محمد النور عمر للصحف أول أمس بأنهم قد نجحوا في حل المشكلة بالتنسيق مع إدارة الكهرباء، ها هي الأحداث تتجدد ثانية باشتباك مواطني المحلية مع قوات الشرطة التي ألقت القبض على عدد منهم ومواجهتهم بعدد من البلاغات كما أوردت «الإنتباهة» أمس.تجري هذه الوقائع في الوقت الذي تعتبر فيه ولاية الجزيرة من الولايات الرائدة اقتصادياً، حتى أنه عند تبديل العملة السودانية نهاية 2007 كشفت عمليات الاستبدال عن الجزيرة أنها الأكثر وفرة في العملة النقدية بعد العاصمة، ولا عجب فهي حاضنة أكبر مزرعة مروية في العالم«مشروع الجزيرة»، فضلاً عن ثلثي مشروع الرهد الزراعي وسكر الجنيد، وتبعاً لذلك فهي تضم أكبر مؤسسة بحثية على مستوى الوطن العربي والإفريقي، ممثلة في هيئة البحوث الزراعي، أضف لذلك جامعة الجزيرة العريقة،التي تحتوي على العديد من المراكز البحثية المتخصصة، بحسب الموقع الإلكتروني للنهضة الزراعية، فالجزيرة ومن خلال محصول القطن وغيره من المحاصيل النقدية كانت في السابق تمثل رافعة الاقتصاد السوداني، قبل بزوغ فجر النفط في أواخر التسعينيات، والذي بسببه أهملت الحكومة الزراعة، في الإطار نفسه يمضي الخبير الاقتصادي د. محمد الجاك للقول بأن الجزيرة خلال العقدين السابقين كانت تساهم بدرجة معقولة في الاقتصاد القومي، ففضلاً عن الإنتاج الزراعي كانت هناك بطبيعة الحال الصناعات القائمة على الزراعة، ولكن بظهور النفط انخفض الاهتمام الحكومي بالزراعة عامة والجزيرة خاصة، فتدهور المشروع، وانعكس ذلك على الصناعات والأعمال التجارية القائمة عليه، ويضيف الجاك ل«الإنتباهة» أسباباً أخرى لهذا التدهور ممثلة في قانون المشروع 2005 والتغييرات الهيكلية التي صاحبت الاقتصاد العام للدولة، التي لم تعد تعتمد على المشروع كمصدر أساسي للإيرادات، التدهور الذي طال المشروع انعكس سلباً على الخدمات التي تقدم للمواطنين بالولاية حالياً، فالمشروع في أصله مشروع لتنمية المجتمع، وكانت به إدارة خاصة للخدمات الاجتماعية، يأتي تمويلها من إيرادات المشروع كالخدمات الصحية والتعليمية والتدريب المنزلي وغيرها، الشيء الذي انعكس إيجاباً على المواطنين الذين كانوا أفضل حالاً من غيرهم في الولايات الأخرى. وجه آخر للأزمة فصّله في حديث سابق ل «الإنتباهة» الضابط الإداري بابكر سر الختم بقوله إن المواطنين في السابق كان تعاملهم مع الضباط الإداريين الذين استوعبوا كيفية التعامل مع المواطنين من خلال تجربتهم الطويلة في ممارسة عملهم، فالمدير التنفيذي لا يصل لهذه الرتبة الوظيفية إلا بعد «27» سنة من مزاولة الخدمة وذلك بخلاف المعتمدين الذين يتم تعيينهم بقرار سياسي، إذن بين مطرقة السياسة وسندان الاقتصاد المتقهقر يدفع المواطن الثمن إلى أن تقضي السماء أمراً كان مفعولاً.