عندما ترشح السياسي والقسيس الأسود جيسي جاكسون للرئاسة الأمريكية عام 2991م داخل أروقة الحزب الديمقراطي، تلقى من الأمريكان البيض ما يزيد عن أربعين تهديداً بالقتل. ولكن لم يقم برغم التهديدات بسحب ترشيحه. وعندما فاز جاكسون بترشيح ولاية (متشجان) انفعل الإعلام الأمريكي متسائلاً بهيستريا ماذا يريد جيسي؟. أي هل هذا الرجل جاد في أن يتقدَّم للرئاسة الأمريكية؟. قالت قريش الأمريكية: هل يريد هذا الغراب أن يؤذن في البيت الأبيض؟. أيضاً أدى ترشيح جاكسون للرئاسة إلى قلق الصهاينة ونظراً لتعاطفه مع الحق الفلسطيني، فكوّنوا رابطة لمناهضته وإسقاطه وسميت رابطة اليهود ضد جاكسون، ذلك لأن الصهاينة مستفيدون رئيسيون من التجميد السياسي للسود، ففي التجربة الألمانية للصهاينة أدى الصعود المفاجئ ل «هتلر» ممثل الإشتراكية الوطنية إلى السلطة، أدى إلى تصفيتهم من الدولة الألمانية وزوال مراكز نفوذهم فبدأ عندئذٍ الرهان الجديد للصهاينة على الولاياتالمتحدة، حيث أصبح الصهاينة يخشون صعوداً مفاجئاً لتيار وطني رموزه من أمثال جاكسون والمفكر الإقتصادي والسياسي (ليندون لاروش) و(شارلس بيرسي) و(نعوم شومسكي)، تيَّار يصفِّي نفوذهم فيصبح مصير دولتهم في الشرق الأوسط، دولة إسرائيل، كمصير القواعد العسكرية البريطانية في الخليج وعدن في الستينات. لذلك سارع الصهاينة الأمريكيين إلى وأد جاكسون وهو في بدايته. وبحسابات الرئاسة فإن فوز جاكسون كان غير وارد إطلاقاً، لأن البنية السياسية للسود غير مكتملة ولكن ترشيح جاكسون يفيده في تكريس زعامته لحركة الحقوق المدنية على حساب زعمائها البارزين الباردين مثل (توم برادلي) و(جوليان بوند) و(أندرو يونج) الذي أبعده نفوذ الصهاينة من مركز المندوب الأمريكي في الأممالمتحدة ليصبح سياسياً من الدرجة الرابعة. ترشيح جاكسون للرئاسة الأمريكية أمكنه أن يحظى بإحدى الحسنيين أي زعامة السود سياسياً، حيث طالب حينها بالمستحيل «الرئاسة» فنال الممكن «زعامة السود سياسياً». أيضاً ترشيح جاكسون للرئاسة في 4891 و 8891م و2991م وذلك هو الأهم، قد ضخ دماءً جديدة في يقظة السُّود التي بدأت تتحرك وتستعيد حيويتها منذ بداية نكساتها بالإغتيالات المتتالية لقيادتها، منذ اغتيال (ماركوس غارڤي) و(درو علي) وحتى اغتيال مالكولم اكس ومارتن لوثر كنج. لكن على أي مرشح أسود للرئاسة الأمريكية من جاكسون إلى أوباما لتحقيق أي انتصار سياسي ليس مصارعة غلاة البيض والصهاينة فحسب، بل القضاء على الغيبوبة السياسية وانعدام الوزن السياسي المريع للشعب الأمريكي الأسود. من مظاهر تلك الغيبوبة السياسية أن نيلسون مانديلا عندما زار أمريكا بعد خروجه من السجن قاد حملة تبرعات لإعادة توطين كوادر حزب المؤتمر الوطني الذي شرَّدهم النظام العنصري خارج جنوب أفريقيا. في حملة التبرعات تلك كان مانديلا يحث النجوم الأمريكيين السود على التبرع. فتبرَّع الفنان مايكل جاكسون بعشرين ألف دولار وكان دخله في تلك السنة ما يزيد عن مائة مليون دولار. أما نجم الملاكمة مايك تايسون فقد طفق يبكي وقال أنه لم يسمع في حياته بمأساة السود في جنوب أفريقيا ولا يعلم شيئاً عن معاناتهم. تلك بعض النماذج للغيبوبة السياسية للسود الأمريكيين. ولذلك كان على المرشحين السود للرئاسة القضاء على تلك الغيبوبة، من القسّ جاكسون إلى المحامي خريج هارڤارد السيناتور أوباما. لمقاومة مثل تلك الغيبوبة السياسية كان جيسي جاكسون قد أسس منظمته السياسية PUSH «بوش» وهي اختصار ل People United To Serve Humanity التي تقع رئاستها في شارع «دركسل» بمدينة شيكاغو. في تلك المنظمة وعلى خطى ونهج (مالكومx) أنشأ جاكسون تحالفه السياسي وسمَّاه تحالف (حنبل المطر) على أساس طبقي من الزنوج والإسبان والكاريبيين وبعض فقراء البيض وغيرهم من البؤساء. وفي يوم السبت من كل أسبوع يلتقي جاكسون مع الجمهور في مقر رئاسة المنظمة. تحمل أحياء شيكاغو سمات نسيجها العرقي فهناك حي الإيطاليين، حي الأغاريق، حي الآيرلنديين، حي البولنديين، حي السود في جنوبالمدينة حيث اختار جاكسون أن يسكن مع ملح الأرض من الشعب الأمريكي الأسود. هناك حيث ترى عصابة نهب مسلح تعتنق فجأة الإسلام وتسمي نفسها «الرُّكن» تيمناً بالركن اليماني في الكعبة المشرَّفة. توجد في جنوب شيكاغو القلاع الحصينة للزعيم أليجا محمد و«أمة الإسلام». وفي شيكاغو يربض الأسد الزعيم عبد الحليم لويس فرقان الذي نظَّم مسيرة المليون رجل أسود في واشنطن العاصمة، حيث شاركت مائتا منظمة سوداء في المسيرة. في جنوب شيكاغو ترى معظم الشباب السود بعيون صغيرة جداً «دُقاق» مشوبة بالحمرة عيون تنظر ولا ترى، نظراتها سابحة في عالم الماريقوانا الوردي، كما سبحت مياه بحيرة متشيجان وشيكاغو على شاطئها بلا ضفاف. من وراء تلك السّحب (الماريقوانية) تتلألأ حقائق الإبداع الرأسمالي وتماثيل نجاحه في «مارينا تاورز» و«مبنى جون هانكوك» ومبنى (IBM) و«مكورمك بليس» و«سيرز تاورز» التي كانت أعلى ناطحة سحاب في العالم ومطار «أوهير» الرائع والأول عالمياً، تسمية المطار جاءت على اسم الطيَّار (أوهير) الذي قتِل في الحرب العالمية الثانية، أيضاً من النصب التذكارية للنجاح في شيكاغو متحف العلوم والتكنولوجيا الذي يستعرض رحلة التقنية كيف نمت من حبة وكيف صارت شجرة، وغير ذلك من روائع الجامعات والمتاحف والمراكز التجارية والمباني. في عصر العنصرية الغليظة كان جاكسون يُطرد من مكتبة شيكاغو العامة حيث يأتي إليه أمين المكتبة ويأمره بالخروج الفوري بعد أن جاء الصبي جاكسون مسافراً بالسيارة لمدة ساعتين ليزيد حصيلته من المعرفة. لكن المعرفة كانت حكرًا على البيض. سكن جاكسون في حي السُّود في جنوب شيكاغو، في «هارلم» الغرب الأوسط الأمريكي، في أحد أحياء العذاب الأسود ينبض طموحه بالرئاسة، فاقترح عليه الإعلام الأمريكي لماذا لا يترشح عمدة لمدينة واشنطن ويريح الأعصاب من طموحاته الرئاسية. ولم يقترح الإعلام عليه أن يصبح عمدة مدينة أو حاكم ولاية أخرى، لأن واشنطن يبلغ عدد سكانها من السود نسبة (07%) وهي بذلك ممنوعة ومحظورة عليها سياسياً أن تصبح ولاية، لأن ذلك يمنح الأغلبية السوداء وضعاً سياسياً. السيادة في أمريكا هي حصرياً للبيض وحتى اليوم لا تتمتع واشنطن العاصمة بوضع الولاية ويطلقون عليها بدلاً من ذلك مقاطعة كولومبيا، حتى اليوم لا تزال الكنائس الأمريكية تمارس الفصل العنصري، توجد كنائس البيض وكنائس السود، أصبحت الكنيسة بدلاً من مكان للعبادة عبارة عن «نادي عرقي». وكتب المتعطِّفون على جاكسون من البيض وهم يرون طموحاته الرئاسية أن جاكسون ليس جاداً في طلب الرئاسة إنما يعاني من عقدة نفسية حيث يشعر أنه غير محترم ولذلك يجب إشعاره بقليل من الإحترام وتنتهي المشكلة، «مشكلة ترشيحه للرئاسة». وهدَّد بيض آخرون جاكسون بأنهم يملكون الملفات والوثائق التي تثبت علاقته الغرامية خارج الزواج، وأنها ستُكشف على الملأ إذا تمادى في مسعى الترشيح للرئاسة، وخلال ذلك كله كانت كاميرات شبكات التلفزيون تتسلل إلى المنزل والحي المتواضع جداً جداً جداً، الذي نشأ فيه جاكسون طفلاً ويافعاً وتصوِّر «الكراكيب» و«الهكر»، وحيث كانت كل غمزة كاميرا غمزة في جاكسون أصله وفصله، هذا والبديهيات السياسية الأمريكية ظلَّت لحقبة من الزمن تتعاطى دعوى أن الفرص الرئاسية الأمريكية متاحة للنساء البيض قبل الرجال السود، قبل جاكسون وأمثاله من «حنابلة المطر» من الأقليات الأمريكية. ذلك لأن الحقيقة الأمريكية تعني أن أمريكا هي للبيض هي «حلالهم» الذي انتزعوه ب «حق الفتح» من الهنود الحمر، هي لهم أرض النور والأحلام والفرص ويجب إبعاد أي أسود مثلما أبعدوا أي أحمر من الهنود الحمر، من أي موقع جدير. تلك هي الملحمة الأسطورية والتحدي الإستثنائي والمسار الحافل بالألغام والأشواك تلك التي ظلَّت تنتظر المرشحين السود للرئاسة الأمريكية من جيسي جاكسون إلى باراك أوباما. لقد تفوَّقت أمريكا على نفسها وعلى العالم فاكتشفت اللاسلكي والتلفون والسيارة والطائرة والكمبيوتر والبصمة الوراثية، وكانت أول من وصل إلى القمر، وها هي أمريكا أمام العالم عام 8002م ثمّ عام 2102م تتفوَّق على نفسها إنسانياًوترتضي أن يرأسها رجل أسود مؤهل مثل أوباما، بل ثبت بصورة قاطعة أن ليس لدى أمريكا كل أمريكا أي اعتراض على أوباما الأسود، أو أن لديها عقدة من لونه. تجدر الإشارة إلى أن عند ترشيح جيسي جاكسون للرئاسة الأمريكية عام 2991م، كانت صحيفة (واشنطن بوست) تقول أنه مؤهل للرئاسة ولكنه اللون الخطأ. وقال الرئيس نيكسون في إعجاب ب (جاكسون) إن مرشح الرئاسة جاكسون أعظم خطباء مرشحي الرئاسة في القرن العشرين. لم تحاكم أمريكا أوباما ب (لونه)، بل حاكمته كما تمنَّى مارتن لوثر كنج أمام النصب التذكاري لإبراهام لينكولن في أغسطس 3691م. لم تحاكم أمريكا أوباما ب «لونه»، بل ب «محتوى» شخصيته. هذا وهناك في مدينة نيويورك ظل «تمثال الحرية» يقف في مياه المحيط الأطلسي إزاء منهاتن الجميلة يرفع شعلة عالية مضيئة. كان ما أروع أن يقرأ على قبسها فردريك دوغلاس مذكراته وكل ما كتبه وسيرته عن حياته كعبد في مزارع ولاية ميريلاند «ولاية مريم العذراء». ذلك التمثال كان يعني للأمريكيين البيض وصول سفن الهاربين من أوربا من جحيم الإضطهاد الدِّيني، حيث شُيِّد التمثال على المرفأ الذي كانت ترسو عليه تلك السُفن. تمثال الحرية كان يعني للبيض النجاة والخلاص والملاذ الآمن والحرية والنجاح، فمن حوله ازدهت وتزينت نيويورك جوهرة التاج الأمريكي وعلى قبالته كان مركز التجارة الدولي ببرجيه التوأمين الرائعين وذلك من قبل أن يدمره بن لادن ويظهر على قناة الجزيرة ليعترف بما اقترف وهو يربط عمامة قصيرة على رأسه ويلبس ساعة باليمين وينشد من أشعار ياسر أبو هلالة: إني لأعلم إنهم من كل بتَّار أحَدُّ!. كما كان يعني تمثال الحرية للأمريكيين السُّود، وصول سفن العبيد الأفاريق «جمع أفارقة» المشحونين المقيَّدين، الذي تركوا الحرية وراءهم إلى أرض العبودية. كان تمثال الحرية قبل انتخاب أوباما رئيساً، يعني بالنسبة إلى السّود بوَّابة إلى عالم العبودية وقص جناحهم. كانت ملحمة المرشحين السود للرئاسة الأمريكية من جاكسون إلى أوباما هي أنهم ظلوا عقوداً يطيرون إلى الرئاسة بجناح مقصوص. في تلك السياقات قال برناردشو (يقولون إنني ساخر... نعم أنا كذلك. ولكن ليس إلى الدرجة التي أذهب فيها إلى أمريكا لأشاهد تمثال الحرية). كان حلم الرئاسة يشد روح السُّود إلى الطيران نحوها. في الخمسين عاماً الأخيرة، بدأ الرحلة إلى الرئاسة ومهَّد الطريق إلى الرئاسة مارتن لوثر ومالكولم وجيسي جاكسون. وسار على ذلك الطريق أوباما فوصل إلى البيت الأبيض. ومن سار على الدرب وصل. وكان الرئيس جون كيندي قد تنبأ عام 3691م بأن أمريكا بعد (04) عاماً ستنتخب رئيس أسود. وقد أصاب الرئيس كيندي برأيه السديد المذهل في توقُّعه بفارق ضئيل لا يذكر. كان حلم الرئاسة الأمريكية للأمريكيين السُّود حلم الطائر كسير الجناح إلى الطيران. لقد ظل السُّود قروناً على موسيقى (البلوز) يغنون ... يا زهرة نفسي ومكاني... يا سِدرة حبِّي وسلواني... ونهاية أحلامي... وبعشقك يبدأ ميلادي الثاني... وأطير على مرمى حجرٍ من ذاتي أحلم بحناني... مقصوصٌ لكنِّي أطير فخيالك يمسك بكياني.