والناس على أعتاب عيد الميلاد المجيد، أتذكر تلك الأيام من أوائل السبعينيات عندما كنت عضواً في هيئة المتاحف الإفريقية، وكنت أزور شرق ووسط إفريقيا مرتين في العام. وكان يشغلنا أمر واحد هو كيف يقضي الناس عيد الميلاد في زامبيا؟ لسبب إذا عرف فإن معظم التساؤلات ستسقط. هل يموت سكان زامبيا من التايفويد؟ لا هل يموت سكان زامبيا من الالتهاب السحائي؟ لا هل يموت الزامبيون كما يموت البعير؟ برضو لا ولكن مم يموت الزامبيون؟ يموت الزامبيون بالعربات.. العربات أيها القراء هي أداة الموت في زامبيا.. إن حوادث الحركة كانت مثل الإصابة بالصداع شيء عادي.. والصحف ونشرات الإذاعة والتلفزيون لا تخلو من حادث فظيع، وهناك عشرات الحوادث التي لا تظهر في الصحف ولا نشرات الإذاعة، وأصبحت حوادث المرور إحدى المشكلات الرئيسة التي تواجه زامبيا في تلك الأيام، والذين يموتون هم الذين يملكون عربات بالطبع، والذين يملكون عربات هم من الشباب والمتعلمين الذين لا تستطيع زامبيا أن تستغني عن أي منهم، ولكنهم بكل أسف يموتون كل يوم، إما متعانقين مع أعمدة الكهرباء أو في أحضان احدى الأشجار الكبيرة أو قافزين من أحد الكباري أو مهشمين بعضهم البعض. واصبح من غير المعقول أن يموت الزامبي كما يموت البعير وعلى سريره.. فقد ترك الناس في زامبيا «موت الأسرة» واختاروا موت الآلة، والذي يموت على سريره إثر علة لم تمهله طويلاً يقيم أهله أولاً حفلة يحيها كبار الفنانين أمثال ترباس «طبعاً ترباس زامبيا» والكابلي «برضو كابلي زامبيا» وهلم جرا «برضو هلم جرا بتاعة زامبيا»، ثم بعد ذلك يفرشون ويتقبلون التحايا وهم يتمنون من الله أن يريكم مكروهاً في عزيز لديكم بمثل الطريقة التي توفي بها عزيزهم، وهي غاية ما يتمناه الأفراد من رب العباد. وقد أنشئ في زامبيا مجلس للسلامة في الطريق في ذلك الزمن سكرتيره السيد ديفيدسون فيري الذي كان يناشد الجماهير أن تفتح عيونها وتضبط أعصابها وفراملها في عيد الكريسماس، وأن يحاول الناس بقدر الإمكان أن يمتنعوا عن القيادة بالليل وقال موجهاً حديثه للذين يقودون عرباتهم بالليل: «يجب أن يتذكر هؤلاء أن يخفضوا السرعة بالليل وذلك لأن الرؤية محدودة وأن عيد الكريسماس دائم، ويعود كل عام، ولكن حياة الإنسان ليست دائمة، والطريقة الوحيدة للاستمتاع بأكبر عدد من الكريسماسات في حياة الفرد هي أن يتعلم الفرد كيف يقتسم الطريق بينه وبين الآخرين والذين لهم حق في الطريق». وقد شاهدت مظاهرة وموكباً جاب شوارع لوساكا نظمه مجلس الشباب المسيحي، وهم يحملون لافتات ويهتفون في سائقي العربات أن يتقوا الله في أنفسهم وفي معشر الخلق، وأن يجعلوا مناسبة الكريسماس مناسبة نظيفة خالية من الحوادث. وبالرغم من أن الأمطار كانت تهطل بشدة، إلا أن الموكب سار في جميع شوارع زامبيا الرئيسة، مذكراً القوم الذين يجلسون خلف عجلات القيادة بأنهم ربما لا يعيشون حتى الكريسماس القادم، وقد طاف في نفس اليوم عمدة لوساكا السيد لافو موليمبا بالمستشفيات متفقداً حالة المصابين في حوادث المرور. وسبب الحوادث يرجع إلى عوامل كثيرة، أهمها أن الطرق في زامبيا جميلة معبدة.. والبيرة متوفرة أكثر من الماء ورخيصة جداً بالنسبة إلى الدخل العالي للأفراد، وهكذا تجتمع كل مقومات حوادث الحركة: الطرق الجميلة زائداً العربات الجديدة زائداً الخمور المتوفرة الرخيصة الثمن زائداً السواقة المجهجهة.. والافراط في الشراب لا تعاني منه زامبيا لوحدها ولكن معظم الدول الافريقية تعاني.. الأمر الذي حدا بالرئيس كينيث كاوندا«آنذاك» إلى أن يهدد بالاستقالة من الحكم لأنه لن يشرفه كثيراً أن يقود أمة من السكارى.. وقد جاء في جريدة التايمز التي تصدر في زامبيا مقالاً بعنوان: نحتاج إلى قوانين لكبح جماح السكر. ويقول كاتب المقال: إن الصحافة تستطيع أن تلعب دوراً خطيراً، وأن تساعد رئيس الجمهورية في القضاء على ظاهرة السكر في تلك البلاد.. وإنه من غير المرغوب فيه: 1/ أن يشرب الشخص أو يكون شارباً طيلة اليوم. 2/ أن يشرب الشخص أو يكون شارباً أثناء ساعات العمل. 3/ أن يشرب الشخص أو يكون شارباً اثناء قيادته للعربة. ولذلك فهو يتقدم باقتراح يقضي بأن تكون هناك بارات مخصصة للشرب على ألا تزيد حصة الشخص الشارب عن عدد معين من الكؤوس. وقد قرأت مقالاً آخر ينادي بإيقاف الدعاية للخمور يقول فيه كاتبه: في بريطانيا المفرطة في التدخين منعت الدعاية للتدخين في كل الأماكن العامة والصحف، وأصبح صندوق السجائر يحمل تحذيراً يقول إن التدخين قد يسبب سرطان الرئة. وفي زامبيا المفرطة في الشراب نرى دعاية واسعة للخمور، كذلك الإعلان الذي يحمل صورة شاب يتأبط زجاجة من الجن ويحمل كأساً بيده ويقول الإعلان: إذا لم تجرب هذا النوع من الجن فإنك لم تجرب الجن قط. هل نحتاج إلى مثل هذا الإعلان ليدفعنا في طريق إدمان الخمر؟ إن الشخص الذي يريد أن يحتسي جناً سيعرف حتماً أين يجده ولا يحتاج إلى إعلان كهذا» أه. وطيلة إقامتي في زامبيا شعرت بأن هذه مشكلة حقيقية، والربط بين الشرب حوادث المرور وارد. وأن حوالى التسعين في المائة من الحوادث يكون الشخص فيها «سكراناً» لا يعرف هل هو ذاهب أم قادم أم جلمود صخر حطه السيل من علِ. وفي بريطانيا إذا أفرطت في الشرب تستطيع أن تتصل بواسطة التلفون بنادي السيارات في أي مكان، وهذا يرسل لك سائقاً يوصلك إلى منزلك و «يقرش» لك العربة في القراش نظير اتعاب بسيطة تضاف إلى رسم عضويتك في نادي السيارات. وتذكرت هنا ما حدث هنا في السودان في ليلة ممطرة «قبل قفل البارات».. فقد كان «الطريق بطال وهطلت أمطار» وأحد الأشخاص قد تناول نصيبه ونصيب غيره من المشروبات الروحية التي انعشته مع برودة هواء المطر إلى درجة جعلته لا يستطيع أن يرى الطريق مستقيماً.. فكان يوقف عربته وهو في أشد الحيرة متسائلاً عن الحكمة في «لولوة الطريق بهذا الشكل ويا ربي ناس البلدية قصدهم إيه؟» وبالطبع فإنه لم يجد إجابة في تلك الليلة الممطرة على سؤاله ذلك، والسؤال الثاني الذي حيره هو أن زجاج عربته معتم والرؤية غير واضحة من خلاله: طيب الشارع ده عرفناه ملولو.. وقزاز العربية ده مالو مخربش ومطفي كده؟ وأخيراً فطن إلى أنه يحتاج إلى منشة لتجعل الرؤية واضحة من خلال زجاج العربية، وبما أن الطريق ملولو وأنه لا يملك منشات لزجاج العربة تصبح قيادة العربة فيها مخاطر جمة... ولهذا بما تبقت له من رؤية أغلق أبواب عربته واستوقف عربة اجرة لتحمله إلى منزله وربك يهون إلى الصباح. وما أن صعد إلى عربة الأجرة وأخذ السائق يتحرك حتى اكتشف أن ذلك السائق يشترك معه ويتفق معه في الرأي أن ذلك الشارع ملولو... فقد أخذ السائق يذهب يميناً وشمالاً ويكاد يصطدم بالعربات التي تأتي من الاتجاه الآخر... وطارت السكرة... وتبخرت من رأس أخينا وهو يرى ذلك السائق يجاهد جهاد المستميت لكي يحقق لنفسه عشرة أمتار للأمام في خط مستقيم.. وفاجأه السائق قائلاً: - بالله شوف المطرة لخبطت علينا القزاز. وهنا صاح الشخص: - وكمان ما عندك منشة؟ وهكذا اكتشف الرجل أن ذلك السائق كان «طينة» أكثر منه وكمان ما عنده منشة!! آخر الكلام: غداً: احترس صحفية عايزة تعمل حوار!!