استغربت لدى اطلاعي الأولي على الرسالة، التي نشرتها الصحف السيارة، ممهورة بقلم الدكتور حسن الترابي، التي بعث بها علناً إلى المشاركين في المؤتمر الصوري، الذي أقامه ما يسمى بحزب المؤتمر الوطني، باسم الحركة الإسلامية السودانية قبل أيام. وساءلت نفسي عن هذا الشخص الذي نادراً ما يعبر عن نواحي ضعفه الشخصي، ما الذي دفع به اليوم إلى سبيل الضعف والتهافت اللافت؟! ورددت على سؤالي ظاناً أن الكيل ربما فاض بهذا الزعيم، وهو يرى الكثيرين من أصحابه وتلاميذه وأتباعه يشاركون في المؤتمر، ولا يبالون بموقفه المارق المفارق، فعبر عن شعور القنوط الذي ساوره وخامره بسطور قلائل، بعث بها إلى المشاركين في المؤتمر راجياً أن يصدهم عما هم بصدده من تدبير، ما فيه لدى الحقيقة من خير كثير. ولكني لحظت لدى القراءة التالية للرسالة ورود خطأين لغويين شنيعين بها، فقلت لنفسي إن اللغوي الضليع المتمكن حسن الترابي، الذي لا يزل لسانه ولا قلمه حتى في الأخطاء الشائعة، التي يمكن التساهل فيها، لا يمكن أن يزل ويتورط في هذين الخطأين الفادحين في مقال واحد! وعندئذ مال بي الظن إلى أن أحدهم ربما كتب الرسالة بالنيابة عنه، وعبر بها عن شعوره الخاص باليأس، ثم أقنع حسن الترابي من بعد، أن هذا هو شعوره أيضا، فوافق غير متردد على نشر الرسالة مذيلة باسمه، وغفلا عن اسم كاتبها الأصلي. وقد اتضح ميل كاتبا الرسالة «الحقيقي والمنتحل» إلى تبرير الأخطاء في المطلع، عندما نحلا الحركة الإسلامية السودانية القديمة عذراً لتدبيرها انقلاباً عسكرياً على الوضع الديمقراطي الذي كانت شريكة فيه حتى قبل أشهر قلائل من انقلابها عليه. وهنا قالا: «والثورات الشعبية في السودان تحدث فوضى من سعته وتباين شعوبه وانفتاح حدوده ولذلك حركت الحركة انقلاباً عسكرياً أخفت من ورائه لسنة ونصف السنة صفة التغيير الإسلامي المنشود، ثم لم يظهر قادتها إلا بعد ست سنوات في القيادة السياسية للقوة الحاكمة». وهو كلام مبهم ولكن يفهم من سياقه طلب التبرير وانتهاب العذر.واتضح جنوح صاحبي الرسالة إلى التجني وطمس الحقائق في مثل قولهما: «وإذ تدهور أمر السلطة في السودان، فانفصل الجنوب عن الشمال، ولا يزال يتمرد ويقاتل الغرب والشرق والجنوب الجديد، وإذ تطاول الكبت السياسي بالناس واستيأسوا من الانتخابات لأنها كانت كلها مزورة يفوز فيها الحكام بنسبة 99%». فجنوح صاحبي الرسالة إلى التجني برز جلياً في قولهما إن الانتخابات التي جرت في عهد الإنقاذ الثاني كانت كلها مزورة ونتائجها 99%. وهذا تزييف للحقائق، إذ لم نسمع بنتيجة انتخابات كهذه إلا في غضون العَقد الأول من حكم الرئيس الأسبق نميري، رحمه الله. وقد تحدث المدعو حسن الترابي عن الانتخابات الأخيرة، في حديث له لتلفزة «الجزيرة»، نافياً فيه أن يكون لحقها تزييف. فما الذي دفع به ليناقض نفسه، ولينسخ قوله الذي سمعه عشرات الملايين، من على ذلك المنبر الإعلامي الشاهق العلو؟! وأما فصل الجنوب الذي يعير صاحبا الرسالة به الحكومة حالياً، فقد كان الترابي كما كان سائر أقطاب حزبه من أشد مؤيديه. وقد أكد أتباعه الذين حق لهم التصويت، على استفتاء الانفصال، وعلى رأسهم مرشح حزبه لرئاسة الجمهورية، الأستاذ عبد الله دينق نيال، أنهم صوتوا جميعاً من أجل الانفصال!. وأما حرب دار فور فمن المؤكد أن أكبر مجرميها هم أتباع حسن الترابي من قيادات وأفراد عصابات العدل والمساواة الإرهابية العنصرية. فكيف يشعل حسن الترابي حرباً ضروساً تصلي الوطن بلظاها ثم يتهم الغير بإثمها المبين؟! وقد نضح خبث باعثي الرسالة في اتهامهما الغليظ لرفاق الأمس بأنهم: «انقلبوا عليه وأسلموا اللاجئين الإسلاميين لمن قتلهم مباشرة وطردوا غالب الآخرين». وهو زعم ليس له حقيقة، ومع ذلك، استمرأ الترابيون ترديده منذ زمن المفارقة، ولم يقيموا عليه أدلة أو إسناد. وقد أوحى لهم شيطانهم أن هذا اليوم هو أولى أيام الدهر بأن يرددوا فيه هذا الزعم! ومثل هذه المطاعن المتبادلة بين إسلاميي السودان، لا باعث لها إلا العراك على المتاع الدنيوي وشهوات الأنا الدنيا. ولا شك أن مرارة فقد السلطة هي التي سوغت للترابي أن يطعن تلاميذه شر طعن، إذ ذكر في رسالته أنهم أقاموا: «مؤتمراً أسموه الحركة الإسلامية ليحتكروا تلك الصفة لأنفسهم وعزلوا أعلام الحركة المعهودين مكبوتين أو معتقلين، والسياسة والحكومة تظل محتكرة لحزب لهم هو المؤتمر الوطني ومعه سواد من عوام المنافقين والمستوزرين من قوى سياسية وآخرين يبتغون المنافع». وبينا وصف أنصاره السابقين بأنهم عوام منافقون، فقد زكى نفسه بأنه علم على رأسه نار، فقال: «لذلك خرجت قيادات عليا من الحركة الإسلامية هي المعروفة في العالم من حصار المؤتمر الوطني «الحزب السياسي الحاكم» ليتمايز مثال الإسلام عن النظام». فهو، إذن، ومعه القليل من متعصبي قيادة ما يسمى بالمؤتمر الشعبي، من أمثال زعيم الفتنة العنصرية بدار فور الدكتور علي الحاج، هم المعروفون عالمياً! وبئس المعرفة العالمية هذه، التي لا فائدة منها، على الإطلاق، بل منها الضرر كل الضرر على الوطن. وإنها لمعرفة لم تفد حتى حزبكم البئيس، وما فائدة ترجونها منها، وأنتم ترون الجميع يتنكبون سبلكم، ويزدرونكم، ولا يبالون بمواقفكم السياسية، ولا يحتفون بكم، ولن يحتفوا برسالتكم المسمومة التي وجهتموها تلقاءهم. ولا بأس أن نذكر في خاتمة القول الخطأين اللغويين، اللذين تورط فيهما محرر الرسالة، وذلك حتى لا يتورط ويتردى فيهما مرة أخرى: فالفعل «أخفق» لا يعني الفشل. ولم يرد في لغة العرب بهذا المعنى. يقول اللسان: الخَفْقُ: اضْطِراب الشيء العَرِيض. يقال: راياتُهم تَخْفِق وتَخْتَفِقُ، وتسمّى الأَعلامُ الخَوافِقَ والخافِقاتِ. والخَفْقة: ما يُصيب القلبَ فيَخفِق له. وخفَق برأسه من النُّعاس: أَمالَه. والفعل «أسْمَى» الذي ورد في الرسالة هو كذلك من قبيل الخطأ. وصحته «سَمَّى». وقد ورد في الحديث المرفوع: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ...». ونسأله تعالى بكل اسم هو له، أو سمى به نفسه، أو أنزله في كتابه، أو علمه أحداً من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده، أن يعافينا مما ابتلي به عشاق السلطة المغرمون، من صراع حاد على السلطان، تجلى في رسالة الترابي إلى المؤتمرين، كما تجلى في صراع المؤتمرين على كراسي الحكم.