إذا كانت القاعدة العدلية تقول بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فهذا يعني أن فكرة العفو عنه وهو بريء قبل إدانته أمر لا داعي له من الناحية المنطقية، وأكثر من ذلك يمكن أن يعني تسجيل إدانة للمتهمين قبل محاكمتهم وإدانتهم أمام القضاء، وإن كانوا أصلاً أبرياء، فإن العفو قبل المحاكم سيفوِّت عليهم شهادة البراءة، وسيسجل لهم التاريخ أنهم مدانون بلا محاكمات. والعفو عنهم قبل المحاكمة يعني أيضاً أن المتورطين بالفعل في مخالفة القوانين السارية قد فلتوا من يد السلطات بالعفو عن المتهمين قبل محاكمتهم. فالمحاكمة إذن في صالح أي متهم يرى أنه لا علاقة له بما أُتهم به، لأن شهادة البراءة أفضل له من العفو قبل المحاكمة وهذه فلسفة قانونية أردت بها أن أسلط الضوء أكثر على القاعدة العدلية التي تقول: «المتهم بريء حتى تثبت إدانته». وأردت أن أقول بأن العفو عن المتهم لا يمنحه شهادة البراءة إذا كان أصلاً بريئاً، لكن الصحيح هو أن يكون العفو عن المدان، لأن العفو وقبول الاسترحام والإفراج كلها تأتي بعد الإدانة. والعفو قبل المحاكمة والإدانة يعني أنه يكون من المحاكمة، وهذا يعني أن العفو تضمن في داخله المحاكمة والإدانة فالأمر كذلك من ناحية فلسفية طبعاً، فكاتب هذه السطور لم يدرس القانون في النظام التعليمي، لكنها مدرسة الحياة، وكما تغنى مجذوب أونسة «الدنيا يا متوري.. والدهر يا ما يقري.. لمن تفوت إنت أنا تاني شِن ليَّ». كل هذه المقدمة جاءت بمناسبة تحرك بعض أعضاء البرلمان من المؤتمر الوطني تسموا بمجموعة «المساعي الحميدة» لمقابلة رئيس الجمهورية ومطالبته بالعفو وإطلاق سراح المتهمين في المحاولة الانقلابية الأخيرة. والرئيس يمكن أن يعفو عن المدانين بعد محاكمتهم لكن كيف يعفو عن متهمين بريئين حتى تثبت إدانتهم؟ وبعض الناس الآن يتحدثون عن براءة بعض المتهمين، وغيرهم يتحدثون عن أن المسألة «سيناريو» ثم يأتي أعضاء من البرلمان يفكرون في لقاء الرئيس لمطالبته بالعفو عن متهمين «بريئين حتى تثبت إدانتهم». أليس غريباً وعجيباً أن نطالب بالعفو بعد الإدانة إذا أدينوا بالفعل؟ ربما تبرئ المحكمة ساحتهم أو ساحة بعضهم لكن العفو عنهم في تقديمهم إلى المحكمة وهم في مرحلة الاتهام فهذا يعني ضمناً أن جميعهم متورطون فيما اتهموا فيه، وإن كان هناك متورطون حقيقيون غير هؤلاء أو غير بعضهم فستظل أسرارهم في بطونهم، لأن الدولة بعد قفل هذا الملف لن تسمح بالبحث عنهم سواء كان بحثًا جنائيًا أو سياسيًا، وسيكون مثل ملف القضية التي حكى عنها مسلسل الشهد والدموع السوداني. إذن في مرحلة ما قبل المحاكمة ليس من المنطق القانوني أن نتحدث عن العفو عن متهمين يعتبرهم القانون بأنهم أبرياء حتى تثبت إدانتهم. لكن إن كان المقصود هو نفي التهم الموجهة ضدهم وإسقاطها عنهم فهذا أمر آخر. ونفيها وإسقاطها يكون بعد التحقيق وقبل تصميم القضية ووضعها أمام مولانا القاضي. وقد فرغ المحققون من التحقيقات مع المتهمين وأطلعوا عليها رئيس الجمهورية. إذن لا سبيل لنفي التهم وإسقاطها بعد ذلك إلا بواسطة المحكمة. ثم إن القضية ليست قضية عملة أو تظاهرات أو تمرد في الحدود أو منشورات سياسية. إنما قضية تقويض للنظام الدستوري وللديمقراطية الرابعة التي جرت الانتخابات فيها تحت أعين الرقابة الدولية.