دائماً كنت أقول لأصدقائي وخاصة عندما يكون الموضوع متعلقاً بإيقاف عربتي أمام صيوان عزاء أو عند مكان عقد قران إنني أتبع إستراتيجية السحلية. فالسحلية لا تدخل مكاناً إلا بعد أن تكون قد خطّطت للخروج وعرفت من أين تخرج. فهي تنظر يميناً ثم شمالاً وفوق وتحت وتحدِّد المكان الذي تستطيع أن تخرج منه إذا حدث أن دعت الظروف لذلك ولا يحدث أن تجد سحلية في ورطة. وكنت أقول لو أن ساستنا اتبعوا إستراتيجية السحلية لما دخل السودان في تلك الأنفاق المظلمة ولكنا قد وجدنا مخارج كثيرة لورطات اقتحمناها فضاقت علينا حلقاتها. وبالمقابل كان أستاذنا في كلية العلوم وقد كان عميداً لها البروفسور ماكلي يدرسنا مادة النبات وكان يقول لنا إن الاختراع الوحيد الذي لا فائدة منه وليس له داع هو «الإستيكة» ولذلك كنا عندما نبحث عن إستيكة ونحن نرسم في مادة النبات بقلم الرصاص كان ينفجر فينا بفلسفته تلك قائلاً: ولماذا ترسم خطاً أنت غير محتاج له. ولو اتبعنا فلسفة أستاذنا ماكلي في عدم فائدة الإستيكة وطبقنا ذلك على سياستنا الخارجية والداخلية لوجدنا أننا كنا سنكفي أنفسنا شر أشياء كثيرة مثل: تصريحات نحن لم نكن نقصدها. وعود نحن نعرف أننا لا ننوي تنفيذها. تلميح بخطوبة أو زواج لا نقدر على تنفيذه. الموافقة على اقتراحات من زوجاتنا. وفي الوقت الحالي نحن لا نستخدم اللغة لكي نقول ما نقصد ولكن لكي نخفي ما نقصد. يغلب على الكثير من تصرفاتنا ما نود أن نمسحه بالإستيكة سواء على المستوى الرسمي أو الشخصي. فوجود الإستيكة إذن يغري بإرتكاب الأخطاء التي يمكن أن تمسح بالإستيكة وكما يقول البروفسور ماكلي لولا وجود الإستيكة لما رسمت خطاً أنت لا تريده. وأغرب ما قرأته هو تعريف للزواج يقول: «الزواج أن تدخل مطعماً فتطلب دجاجة محمرة وبعد مدة يأتي الجرسون ويقدم لك طلبك ثم تلتفت يميناً أو يساراً وتجد جارك قد طلب سمكاً مشوياً فتتمنى لو أنك قد طلبت سمكاً مشوياً». على أية حال إذا لمحتني يوماً وأنا ألف وأدور بعربتي حيث تزدحم العربات وتغلق المنافذ على بعضها فاعلم أنني أطبق إستراتيجية السحلية. تمهل أيها المربي «إذا فتحنا رأسك فلن نجد مخاً وإنما قطعة من الشحم الأبيض» هكذا خاطبه أستاذه وهو لم يستطع القراءة رغم بلوغه سن الثامنة. ولكن شيسترتون أصبح فيما بعد من أكثر الكتاب والروائيين الإنجليز شعبية. وعندما كان البرت اينشتاين مكتشف نظرية النسبية في عامه العاشر قال له استاذه: «أؤكد لك يا ألبرت أنك لن تكون شخصاً ذا أهمية في يوم من الأيام». وهذا كان أستاذه ينعته بأنه أبله وكان والده يعده غبياً ولكن أمه هي الوحيدة التي شجعته فوضع اسمه على أكثر من اختراع من بينها المصباح الكهربائي والجرامفون ذلك الذي كانوا يعدونه غبياً هو توماس أديسون أكثر المخترعين شهرة. كم من المربين الأفاضل تفوه بمثل هذه الكلمات المحبطة في حق العشرات من تلاميذه دون أن يدري ربما يكون من بينهم عالم أو مخترع؟ إن تفهم ظروف كل طفل والعوامل التي تقف خلف فشله في عدم قدرته على الكتابة أو التعبير أو فهم وتطبيق الرياضيات الحديثة مثلاً أمر على غاية من الأهمية فلا يوجد هناك الشخص الذي لا نفع منه أو ميؤوس من إصلاحه والأخذ بيده. ولكن توجد في أساليبنا التربوية ما يمكن أن يحوِّل أي شخص إلى تلميذ خائب لا نفع منه. عندما عدت الى السودان من الاغتراب عام 1998م ألحقت ابني أحمد بإحدى المدارس الثانوية. في مدرسته التي كان يدرس فيها في السعودية بمدينة الطائف نال ابني شهادة الطالب المثالي أربع مرات ولكن في أول أسبوع له بالمدرسة في بحري جلده أستاذ مادة الفنون ست جلدات هو وابن الدكتور كمال الطيب بحجة أنهما كانا يتكلمان في الفصل. والآن فقد بدأت الدراسة في المدارس آمل أن يتنبه التربويون إلى أن الطالب الذي يدمغونه بأنه لا فائدة منه ربما كان يحمل في داخله بذرة عبقري عظيم. لقد برهنت الأبحاث أن الطلاب الذين يعانون من مشكلة في القراءة والكتابة أو ما يعرف بالديسلكسيا Dyslexia يعود ذلك في معظم الحالات الى نقص في عنصر السلينيوم والماقنيسيوم في غذائهم أو عدم مقدرتهم على الأستفادة من العنصرين المذكورين حتى لو وجدت في الغذاء لعلة في جهازهم الهضمي ويمكن تعويض ذلك ببعض الأدوية. فما كل تلميذ يجد صعوبة في الدراسة بليد ولا نفع منه. وهناك من التلاميذ الذين يشهد لهم أهلهم بالذكاء وما يسمونه بالشيطنة إلا أنهم لا يستطيعون الاستمرار في الدراسة وهؤلاء بكل بساطة يكونون من ذوي القدرات التي تفوق قدرات الطالب العادي ولذلك لا يستطيعون التركيز في مقررات أقل من قدراتهم العقلية ولهذا فطنت بعض الدول لذلك وحددت لهؤلاء مناهج متقدمة تلائم قدراتهم ويسمونهم بالأطفال السابقين لنموهم Premature Children. استفادت منهم روسيا على أيام الاتحاد السوفيتي فائدة كبيرة عندما احتوتهم في أكاديمية العلوم والتكنولوجيا التي كانت تختار لها الطلاب المبرزين في مجال العلوم والرياضيات.