في معرض تقديمه لديوان الشيخ محمد سعيد العباسي وتقريظه للديباجة الشعرية المتوهجة في شعره، قال أمير من أمراء دولة الأدب، هو الأستاذ محمد فريد أبو حديد: «رأيت نخبة من فضلاء أدباء السودان، وقرأت لهم، وسمعت منهم. وكنت في كل مرة أزداد إيمانًا أن الصور التي تلمع في شعرهم، تنبعث عن فن أصيل، ومن نبع فياض. بل لقد ذهب بي الخاطر أحيانًا، إلى أن ألمح في شاعر السودان أديبًا أبعد أصلاً في العروبة من سائر الأدباء. لقد سمعت في شعر السودان البدوي وفي أهازيجه الشعرية من صيغ الألفاظ، ومن صور التعبير، ما لا يتوفر إلا لقوم لهم لسان عربي أصيل، من أرومة بدوية عريقة. لقد سمعت في السودان من شعراء الشعب، قومًا ينطقون لعامة الناس، بما لا يدركه في غير السودان، إلا المتأدب المتوفِّر على دراسة اللغة، فهو ينشد للناس بلغة عامية، متحدثًا عن الشادن ... والرحال، والمسارب. وما أظن عامة شعب عربي آخر تدرك لهذه الألفاظ معنى. ومن ذلك ذهب بي الخاطر أحيانًا إلى أن أهل السودان العربي إنما ينطقون بلسان قديم، ويغترفون العربية من أصل أصيل. بل لقد خطر لي أنهم استقوا العربية عبر البحر، قبل أن يرتووا من منهل الإسلام. وليس ببعيد أن يستطيع أحد الباحثين إثبات قدم العروبة في السودان، وأن القوم قد عاصروا في الجاهلية إخوانًا كانوا يتغنون معًا بلسان عربي مبين». هذا الأمل الذي داعب خاطر الأستاذ الكبير أبي حديد قد أقدم على تحقيقه، وإن بنهج علمي مختلف، أحد علماء السودان الشباب، وهو الدكتور أبشر عوض محمد إدريس، حيث توفر على إحصاء عدد ضخم من الأحاديث والآثار التي وردت فيها ألفاظ يكثر استخدامها في عامية أهل السودان، ويظن الكثيرون أنها ألفاظ عامية سودانية قح، فإذا بالدكتور يستخرج لها أصولاً من أفصح مادة لغة الضاد، ويقوم بتخريج هذه الأصول من الأحاديث والآثار، ويردف ذلك بشروح وافرة لهذه الألفاظ من غريب الحديث، لسان العرب، وتاج العروس، وجمهرة اللغة، وأساس البلاغة، ودلائل الإعجاز، وغيرها من مصادر لغة الضاد! ولهذا البحث الذي أنجزه الدكتور أبشر قيمة ودلالة علمية كبرى باتجاه تأصيل اللهجة العامية السودانية. ويمكن إن بذل جهد طيب في ترويجه وإيصاله إلى القارئ السوداني العادي، أن يصبح واحدًا من كلاسيكيات البحث العلمي اللغوي في السودان، وإضافة متميزة إلى ما صدر خلال العقود الماضية من جهود علمية كبيرة في دراسة اللهجة العامية السودانية، وأهمها قاموس اللهجات العامية الذي افترع مشروعه أحد المستشرقين، وتصدى لإكماله الباحث الدؤوب البروفسور الراحل عون الشريف، رحمه الله. وبجانب القيمة العلمية المتميزة لهذا البحث الذي نحن بصدده، فإنه بحث طريف لطيف، مكتوب بلغة رشيقة، وقراءته مسلية ممتعة، ولا يحرم من قراءته إلا ذو حظ مغبون. ودعنا في عرضنا هذا القاصر له نأخذ منه نماذج معبرة من الألفاظ العامية الفصاح. التلتلة والجهجهة إن كلمة «التلتلة» وتصريفاتها مستعملة بكثرة في عامية السودان. ولكن المؤلف يدلنا على أصل لها في حديث رواه ابن مسعود :« أنه أتى بسكران أو شارب خمر فقال: تلتلوه ومزمزوه«. وفي الشرح قال أبو عمر: وهو أن يحرك ويزعزع ويستنْكَه حتى يوجد منه الريح ليعلم ما شرب. والتلتلة والبربرة والمزمزة بمعنى واحد. وجمع التلتلة تلاتل وهي الحركات. قال ذو الرُّمة يصف بعيرًا: بعيد مساف الخطو تقطع أنفاس المهاري تلاتله! وكلمة «أجلح» بمعنى منحسر الشعر عن جانبي الرأس كلمة عامية سودانية، ولكن المؤلف يدلنا على أن لها أصلاً في حديث علي بن أبي طالب في أسرى بدر:« فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال له العباس: يا رسول الله: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهًا ... إلخ الحديث. وكلمة «الجهجهة» كلمة عامية كثيرًا ما تستخدم في كلام السودانيين العادي للإعراب عن معنى الحيرة والاضطراب و«عدم الجيهة». ولكن المؤلف يدلنا على أصل لها فصيح ورد في حديث أبي سعيد الخدري، قال: بينما رجل من أسلم في غنيمة له يهش عليها في بيداء ذي الحليفة، إذ عدا عليه ذئب فانتزع شاة من غنمه، فجهجأه الرجل، ورماه بالحجارة حتى استنقذ منه شاته...« قال الزمخشري: جهجأه: زجره والهمزة من هاء. وقال عمرو بن الإطنابة: والضاربين الكبش يبرق بيضُه ضربَ المُجَهْجَهِ عن حياضِ الآبل! الطبطبة والعترسة وأما كلمة «الطبطبة» التي تعني صوت وقع الأقدام عند الجري، والواردة في مثل قول المادح حاج الماحي، رحمه الله، وهو يصف جري جمله: اسمه مشي رجليه طبطب! فإن المؤلف يدلنا على أصلها الفصيح في الحديث الذي أخرجه أبو داود عن ميمونة بنت كردم، قالت: خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنا إليه أبي وهو على ناقة له، فوقف واستمع له، ومعه دِرَّة ٌكدِرَّةِ الكُتَّاب فسمعت الأعراب والناس وهم يقولون الطَّبطّبيِّة الطَّبطّبيِّة الطَّبطّبيِّة. قال الخطابي: قولها: يقولون الطَّبطّبيِّة إنما هو حكاية وقع الأقدام. وأما «العترسة» التي تعني العرقلة والشدة والصعوبة، فإن أصلها، كما يدلنا المؤلف يوجد في الحديث الذي أخرجه صاحب كنز العمال عن أنس قال: «علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات، لن يضرني معهن عتو جبار، ولا عترسته، مع تيسير الحوائج ولقاء المؤمنين بالمحبة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. بسم الله على نفسي وديني، بسم الله على أهلي ومالي، بسم الله على كل شيء أعطاني ربي. بسم الله خير الأسماء، بسم الله رب الأرض والسماء، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه داء. بسم الله افتتحت، وعلى الله توكلت. الله الله ربي لا أشرك به شيئًا. أسألك اللهم بخيرك من خيرك، الذي لا يعطيه غيرك. عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله إلا أنت. اجعلني في عياذك وجوارك من كل سوء ومن الشيطان الرجيم. اللهم إني أستجيرك من جميع كل شيء خلقت، وأحترس بك منهن. وأقدم بين يدي بسم الله الرحمن الرحيم: قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد. عن أمامي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي وتحتي. يقرأ في هذه الست قل هو الله أحد إلى آخر السورة». وللمرء أن يتساءل مستبعدًا: من أين تأتي العترسة بعد أن يقرأ الإنسان بخشوع وإخلاص هذا الدعاء البليغ، الذي أوردناه في سياقنا هذا بطوله وتمامه لتتم به الفائدة وتكتمل، وحتى لا يشكوا أحد بعد اليوم من عترسة تعترضه أو تعتريه!