الحقلُ الأخضرُ صنعُ يدي... وأنا فلاَّحٌ يا بلدي فلاحٌٌ، يا بلدَ النور ِ... أستيقظُ قبلَ العصفور جراري أحدثُ جرارِ... أعلوه عند الأسحار وأغني للزرعِ الآتي... مطراً مطراً من خيرات كانت الكلمات الحلوة السابقة تنساب رقيقة مفعمة بالجمال وابني الصغير ذو السبعة أعوام يرددها في تكرار وإصرار شديدين وكأنه يؤكد أنها لا بد وأن تصير واقعًا يعيشه وجيله. ولا أدري هل أدرك بسنواته القلائل أن ما يقوله لا يكاد ينطبق في كثير أو قليل على الواقع؟؟ لقد كان يرددها بلحن خلاَّب آسر وكانت عيناه تلتمعان فرحاً بما يقول وكأنني به قد غادر مجلسنا ذاك وانتقل بكلياته الي حقل أخضر يمتد شاسعًا أمامه، وكأني به قد اعتلى صهوة ذاك الجرار الذي يتغنى به فرحاً طروباً وهو يحرث ويزرع ويقلع ويتجول هنا وهناك في مساحات تمتد بامتداد بريق الأمل في عينيه. وبقدر ما كانت السعادة تتبدى على محيَّاه وتحمله على جناحي يمامة الى أُفقٍ بعيد من الأماني العذاب، بقدر ما كانت كلمات «النشيد» تحفر ألماً عميق المدى بداخلي دفع الدمع لأن يتزاحم أرتالاً في المآقي... فأين هو ذياك الحقل الأخضر الذي ظل الفلاح أميره المتوج منذ أن بدأ الله الخليقة؟؟ أين هو ذاك الفلاح الذي يستيقظ قبل العصفور ليعلو جراره عند الأسحار ليحيل المدى بساطاً أخضر يجلو الخاطر المعنَّى ويغلق المنافذ على الحاجة والجوع الكافر؟؟ أين هو الزرعُ الذي ننتظره أن يأتي ولا يأتي ليكون مطراً مطراً من خيرات؟؟ أين وأين... ولشد ما آلمني أن أرى الفرح الغامر في عيني الجيل الجديد لا يكاد يقف على ساقين من الواقع، فلم أدر ما أقول وهو يسألني وكلي ثقة أن جيله كذلك يتساءل: ماذا يزرع الفلاح عندنا يا أمي؟؟ هل أقول إنه «كان» يزرع كل شيء تقريبًا وأننا «كنا» ملوك الأسواق العالمية لأكثر من محصول «نقدي» كالقطن والصمغ العربي والحبوب وووو...!! هل أقول وأقول وأقول... سقط الكلام عندي سهواً، ولم أستطع سوى أن أزرع الأمل في نفس صغيري وربما من قبله في نفسي وأنا أقول له إنه غداً سيزرع بإذن الله أرضاً شاسعة ويقيم في منتصفها داراً ستكون الأجمل!! وللحقيقة لا أدري كيف سيكون ذلك ولكن هذا الأمر أصبح حلماً يراود مجموعة كبيرة من المعارف والأصدقاء.. فالعديدون يودون الهروب من جفاف المدن الممتد الآن الى براح الحقول والشموس المشرقة الوضيئة... ولكن كيف؟؟! إن مبعث الحزن الذي عشعش في النفس جرَّاء أبيات قليلة، خفيفة الإيقاع رددها طفلي لم يكن لأجل ماضٍ ولىَّ ولا نستطيع إرجاعه مهما فعلنا، ولكن مبعثه كان من أجل مستقبل لا نريد له أن يكون رجع صدى لحاضر يظل يدفع بكل شيء إلى الانهيار دون أن يقف أحد ما ليتساءل عن الكيفية التي يمكن بها وقف هذا الانهيار المتسارع. ودون أن يتساءل أحد عن حق الأجيال القادمة في إرثها في الوطن!! إن نظرة سريعة للأسواق والشوارع والتقاطعات المرورية، التي أصبحت تمتلئ حتى تفيض بالباعة المتجولين الذين هم في ميعة الصبا والشباب، أي عمر العطاء، وهم يحملون المناديل وألعاب الأطفال وغيرها وغيرها، مما لا يسمن ولا يغني من جوع بلد يحتاج إلى عزمات كل أبنائه لينهض ماردًا يمتلك كل المقومات ليصبح في الصدارة، إن نظرة سريعة إلى هؤلاء تنبئ عن مآل الحال بعد وقتٍ ليس بالبعيد. وإذا ما سألت أحدهم عن سبب ما يفعل لا يملك إلا أن يدفع لك بألف سبب وسبب قد لا يقنعك أنت لكنه يكفي ليقنعه هو بعدم جدوى فعل أي شيء. إن الكثير من هؤلاء الشباب قد تركوا زراعتهم وأراضيهم بعد أن عزَّ العمل بها لظروف لم تعد مواتية، قد تبدأ بالاحتياجات الملحة للعملية الزراعية والتي لم تعد تغطي كلفتها كل الأرباح التي قد تأتي وذلك للكثير من الأسباب، كما وقد لا تنتهي بفشل عملية البيع والتسويق التي في كثير من الأحيان يخرج المزارع منها صفر اليدين بعد أن يستوفي كل دائن دينه، والشواهد على ذلك ليست بالقليلة. ان حال الزراعة في بلادي والتي يفترض بها أن تكون زراعية في المقام الأول، يكاد يغني عن السؤال عما عداها، فمهما تفجّرت الثروات من تحت أرضنا البكر، سواء كانت معدنية أو غيرها مما تزخر به، مهما تفجَّرت يجب ألا تكون أبداً بديلاً يعشي الأبصار عن حقيقة كوننا دولةً زراعية قبل كل شيء ولو التفتنا فقط إلى ثرواتنا الزراعية لاكتفينا بها عن كل ماعداها، ولنا في ماضي «بترولنا» القريب عبرة يجب ألا تغيب عن البال أبدًا. ولطفلي، و كل أطفال بلادي سلامة الحاضر والمستقبل... وسلامة الحُلُم!!