اجتمعت كل رزايا طيش الجهل المزري، في كيان الهزال المتضعضع، الذي سمي بالجبهة الثورية السودانية، التي أصدرت ما سمي ميثاق الفجر الجديد. ويبدو أن أمر صياغة هذا الميثاق، من ناحيتيه العقلية واللغوية، قد أُسند إلى صبية، مراهقين، مازالوا بقيد التعليم الأساسي، أو انفلتوا منه، فاقداً تربوياً، غير مأسوف عليه، فجاء منهم التفكير، كما جاء منهم التعبير، في أسلوب فطير، جد فطير. وبسبب من التردي الهابط، صوب الدرك الأسفل، من حيث الأداء الفكري، أو السياسي، أو الأدبي، أو اللغوي، انهال النقد، وانثال، من كل مجال، وانصب على هذا الميثاق، المعتوه، المشبوه. ولم يساورني أدنى عجب، عندما رأيت، في زمرة من رأيت، من صبوا جام سخطهم، وزرايتهم، على الميثاق، وسخروا من مستواه، فكراً ولغة، بعض كتاب اليسار الكبار. ولكن ربما كان بشير سعد، أن يظهر هذا الميثاق، بهذا المحتوى الضحل، والمستوى المتهافت، حتى يكشف تهافت قدرات هذا الكيان المتهافت، الذي تتهافت أحزاب الشمال المتهافتة، للهوِيِّ بأحضانه العجاف. وقد كان من أطرف ما حدث، أنه ما مرَّ أسبوع واحد على صدور ذلك الميثاق، حتى زودتنا الجبهة الشعبية المزعومة، بإمارة جديدة دالة على خطلها، وخفة قدرها واستخفافها، الذي يستخف مع ذلك، أحزاب الضلال في الشمال. ولا شك أن من أبرز الإمارات، التي تؤكد تدهور الكيانات السياسية، أن تؤول قيادة حركاتها الذهنية، إلى أردأ عناصرها، من الناحيتين التعليمية والثقافية، ومن نواحي الدُّربة، والحكمة، والنضج السياسي. وهذا ما انطبق، تمام الانطباق، على شذاذ الآفاق، من حشرات ما يدعى بالجبهة الثورية السودانية. ولننظر في هذه الإمارة الدلالية الأخيرة، قبل أن ننظر في نص الميثاق المزعوم، وإن هي إلا نظرة عابرة، ساخرة، لا غير، إلى هذا الإعلان، السمج، الفِج، الممجوج، الذي أصدرته الجبهة، غير الثورية، في موضوع آخر، غير متصل، حيث سخرته لرثاء فنان سوداني، هو الراحل محمود عبد العزيز، رحمه الله. وفي سياق هذا الرثاء، أو النعي، شاءت الجبهة، أن تسوِّق إعلانها السياسي، سيئ الصيت، المسمى إعلان الفجر الجديد. وبدا جلياً أن محرري هذا الرثاء، وكذا من أجازوه من قادة الجبهة الثورية المزعومة، اقتدوا في هذا مسعاهم، التسويقي، الترويجي، بكاهن من كهنة الاتجار، هو المدعو كوهين، الذي استثمر حيزاً من إعلانه الصحفي، الذي رثى به فلذة كبده، فنادى في القوم أن له متجراً، يُعنَى بتصليح الساعات، أم كما قال! وهنا ربما فاق أرباب الجبهة غير الثورية، في طبع الجشع والانتهازية، سيدهم وقدوتهم كوهين، فأعلنوا عن متجرهم أولاً، قبل أن يشرعوا في رثاء الفقيد، فقالوا في المطلع:« بعد أن أطلت إشراقة الفجر الجديد على سموات السودان إشراقاً بدلاً من الظلام ومحمود عبد العزيز بإرادته وصبره يتحدى الصعاب». وبدأوا بالمبتدأ حقاً، وهو المهم لديهم، لا غير، وهو إعلان الفجر الجديد. ولكنهم عجزوا، بعد ذلك، عن إخبار القارئ الذي يخاطبونه، عن الخبر الذي لا بد أن يتبع هذا المبتدأ. وعجزوا عن إخبار القارئ، إلى أي شيء تشير «بعد» هذه، التي صدَّروا بها المقال، حيث بتروا المبتدأ عن الخبر، فأصبح مبتدأ ليس له إخبار!! ثم دلف إعلان الجبهة المزعومة، إلى صلب المراد، كما يفترض، فقال:« بمزيد من الحزن والأسى تنعى الجبهة الثورية السودانية، الفنان محمود عبد العزيز، وأسرته، وأهله، ومحبيه، وأسرته الفنية، والشعب السوداني، على رحيل الكروان، على ناصية الفجر الجديد». ولا شك أن هؤلاء الجهلة، من حرافيش الحشرات الشعبية، الذين يتصدرون المشهد الفكري، والإعلامي، في الجبهة المزعومة، لا يعرفون معنى النعي. فالمعنى الاصطلاحي للنعي في لغة التداول الصحفي المعاصر هو الرثاء. وهو معنى لا أصل له في اللغة الفصحى، لأن النعي معناه، كما أفاد اللسان، خَبَرُ الموت، وكذا الآتي بخَبرِ المَوْت. ولكن دعنا مما يقول اللسان، فلا طاقة لهؤلاء بما يقول اللسان، ودعنا نفترض، لهنيهة، صحة ما يرد في لغة الصحافة، من أن النعي هو تعديد محاسن الميت، وإبداء الحزن على فراقه. فحتى هذا المعنى تجد أن حرافيش الجبهة الثورية المزعومة، ومدبجي بياناتها، ومزوقيها، قد أخطأوه ولم يفقهوه! وإلا فانظر كيف ينعى هؤلاء القوم مع الفقيد، أهله، وعشيرته، وشعبه أجمعين! ثم انظر إليهم، كرة ثانية، تراهم، في نزعتهم، الانتهازية، النهَّازة، يختمون رثاءهم، أو نعيهم، بالترويج مجدداً لميثاقهم المقيت، حيث قالوا: «على رحيل الكروان، على ناصية الفجر الجديد». ألا ما أخيب جبهة سياسية ثورية تؤمر عليها أمثال هؤلاء الصبية المصابين بفقد الصواب!! وما أخيب أحزاباً في الشمال، تراهن عليهم، وتضع أيديها في أيديهم، وتوليهم زمام أمرها، ليخبطوا بها في طريق الظلام الخابط، لا طريق الفجر المنير. «وفي الجزء الثاني ننتقل، بإذن الله تعالى، من الهامش، إلى المتن، لنحلل ميثاق الفجر الجديد المزعوم».