منطقة الشمال والغرب الإفريقي، تعد من المناطق غير القليلة التي تمثل أهمية كبرى في الخريطة الجيوسياسية العالمية، ذلك أنها تمثل بؤرة تقاطعات للعديد من القوى الدولية التي تسعى الى بسط سيطرتها على العالم اعتمادًا على ما للمنطقة من إمكانات هائلة على كل المستويات. فالأطماع في القارة البكر لم تتوقف يومًا حتى وإن بدا ظاهريًا أن العديد من دول العالم الاستعماري قد نفضت يدها وتبرأت مما اقترفته بحق القارة وشعوبها في الفترات الاستعمارية التي امتدت في بعض هذه الدول حتى وقت قريب. نقول لم تتوقف الأطماع يومًا لا في الثروات الطبيعية للقارة والتي لم تكتشف كلها بعد، ولم تتوقف كذلك عن المحاولات المستمرة للإفادة من موقع القارة الإستراتيجي في قلب العالم لخدمة أطماع تلك الدول حتى بعد أن أصبح العالم تديره الكثير من المؤسسات الدولية والتي هي في حقيقة الأمرلا تعدو كونها امتدادًا لذات المنطق الاستعماري ولكن وفق غطاء قانوني فهي وإن تدثرت بقيم الحق والإنسانية إلا أنها في الواقع لا تخدم سوى نفس الأجندة التي قادت أوربا يومًا لاستعمار القارة السمراء، ملتحفة لذلك رداء الشرعية الدولية المُذهَّب البرَّاق. فالأزمة التي تأخذ بخناق الغرب الإفريقي الآن والتي بدأت من دولة مالي قد أخذت تتداخل حبالها لتلتف حول العديد من دول الحزام الشمالي الغربي للقارة، وأصبحت دون شك أزمة دولية وإقليمية من الطراز الأول. وبرغم أن إحداثيات الإشكالية هي ذات طابع محلي، وكان لها أن تبقى كذلك، شأناً محلياً يخص دولة ذات سيادة، إلا أن تقاطع المصالح الدولية فيها أدى إلى اتساع دائرتها كثيرًا وتحولت بين عشية وضحاها إلى أزمة دولية، إن هي استمرت في التفاقم فستنداح دوامتها لتبتلع العديد من الدول ليس في الإقليم فقط بل على مستوى العالم، خاصةً أن المنطقة نفسها تعاني تناقضات داخلية كثيرة. فالعديد من العرقيات في مالي لها جذور وامتدادات داخل العديد من الدول المجاورة كما هو الحال لمعظم دول القارة فالتداخل الاثني والعِرقي يكاد يكون طابعًا مميزًا للقارة السمراء وأحد أهم عوامل ارتباطها، كما أنه أحد أهم عوامل نكباتها بنفس القدر. نقول، إن هذا التداخل ينبئ بحجم الكارثة التي يمكن أن تنجم إذا اشتعل عود ثقاب في مالي وأجج الحرب المحتملة، والتي تحشد لها فرنسا الآن الحشود وتدير لها ترسانة حربية شرعت في شن حملة عسكرية في الشمال المالي لن تكون أبداً سهلة وستكون لها تداعياتها الكبيرة بلا شك. ففرنسا التي كانت حتى وقت قريب تستعمر مالي وأغلب دول الساحل الشمالي الغربي، لم تستطع وبعد عقود من خروجها من القارة، لم تستطع ترك إرثها العلماني الذي زرعته في المنطقة يتهدده المد الإسلامي الذي يكاد ينطلق من دولة «أزواد» الوليدة في الشمال المالي، ولهذا سارعت ودون إبطاء، بل ولم تنتظر حتى اكتمال الاستعدادات الدولية للتدخل في مالي والتي كانت تجري على قدم وساق، لم تسطع لها صبرًا وسارعت ببدء ضرباتها العسكرية على الشمال المالي ناسفة بذلك كل الخطوات التي اتخذتها طوال السنوات الماضيات بشأن تحجيم اتفاقيات الدفاع المشترك التي تربطها بمستعمراتها السابقة في القارة، وذلك في خطوة رعناء أججت النار التي هي أصلاً مشتعلة في مالي جرَّاء التدخل والوجود الأجنبي في البلاد. فأخشى ما تخشاه فرنسا الآن والغرب عمومًا هو قيام وحدة إسلامية بين الحركات في مالي تؤدي إلى تكوين دولة إسلامية قوية في الشمال وهي بلا شك ستتهدد الوجود الفرنسي والأجنبي في المنطقة ككل وليس في مالي فقط. فمنذ السادس من أبريل من العام الماضي وهو تاريخ قيام دولة «أزواد» في الجزء الشمالي من مالي وعلى ثلثي مساحة البلاد، منذ ذاك التاريخ ومالي تقع تحت تأثير أضواء عالمية كاشفة فضحت برعونتها كل الأطماع الغربية في المنطقة. فعلى الرغم من أنه ولسنوات خلت لم تنقطع هذه الأطماع وظلت الدول الاستعمارية تدير معاركها في المنطقة بالوكالة، وهو أمر مخز ظلت تقوم به العديد من دول المنطقة خدمة لمستعمريها السابقين، الا أنه حقيقة واقعة ظلت تحرك كل أوراق اللعب في الشمال والغرب الإفريقي لعقود تحت سمع وبصر العالم. إن الهاجس من تزايد نفوذ الإسلاميين في المنطقة لا ينفصل بحال من الأحوال عما يجري وهو الدافع لكل ما يتلاحق من أحداث في مالي والعديد من المناطق في العالم. فالمشهد في مالي لا ينفصم عن بقية المشاهد في معظم دول ما عُرف بالربيع العربي. والهجمة على الصعود المستحق للإسلاميين في هذه الدول لا تبتعد في جوهرها كثيرًا عن ما يحدث في الغرب الإفريقي، وإن اتخذ ستارًا من دعاوى حماية حقوق الإنسان وحماية المدنيين والشرعية. «يتباطأون في التدخل في سوريا خوفاً من الإسلاميين، ويتعجلون التدخل في مالي، خوفاً من الإسلاميين أيضاً» هذه المقولة هي أصدق ما قيل عمّا يجري في مالي وتكاد تنطبق إحداثياتها على الكثير من أحداث وقضايا العالم الساخنة.