تجتذب مالي، تلك الدولة الإفريقية الصغيرة في الشمال الغربي لإفريقيا والتي هي فقيرة بكل المقاييس، الكثير من الاهتمام العالمي منذ وقت ليس بالقصير، شأنها في ذلك شأن الكثير من الدول الإفريقية التي يرسم موقعها على الخارطة الجيوسياسية العالمية الكثير من ملامحها على كل الأصعدة بدءً بالاقتصاد، ومرورًا بالاجتماع، وليس انتهاء بالسياسة بكل تأكيد. فالكثير من الأحداث الداخلية لهذة الدول المستهدفة ترتبط بشكل أو بآخر بالدور الذي تلعبه في توازنات القوى على مستوى العالم. ومنذ وقوع الانقلاب العسكري الأخير في مالي في أبريل الماضي وتزعزع الأوضاع السياسية ومن ثم الأمنية داخل مالي، التي تشهد أصلاً عدم استقرار بسبب الأوضاع التي تتزاحم و تتراكم على كامل منطقة الساحل الغربي والصحراء، منذ ذاك الحين ومالي تتربع على قائمة أهم الأولويات على أجندة الكثير من الدول «الكبرى» التي تتصارع من أجل الدخول عبر بوابتها للسيطرة على منطقة من أكثر مناطق العالم حيوية، بل وبأكثر من ذلك، للالتفاف والسيطرة وتطويق الكثير من المتغيرات الجديدة في المنطقة العربية الشمالية لإفريقيا وبالأخص مناطق ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي. وبرغم أن الفراغ الأمني الذي أحدثه الانقلاب هو شيء مفهوم في ظل خلافات عديدة تضرب عميقاً في البنية الفكرية والعسكرية لصناع الانقلاب وقادته، إلا أن هذا الاضطراب قد اتخذته العواصم الكبرى التي تتحكم في العالم منذ عقود سبباً قد يقود لتدخل مجلس الأمن مما يفضي ربما إلى تدخل عسكري سيحيل بلا شك منطقة الغرب الإفريقي إلى بؤرة انفجارات دموية ستشمل الساحل بكامله وتؤثر على أكثر من خمس عشرة دولة إفريقية هي بشكل أو بآخر ترتبط بما يجري على الساحل الإفريقي. فالاضطراب السياسي العالمي الذي أحدثه انفصال الشمال المالي عقب الانقلاب، عن الدولة الأم وتكوين دولة «أزواد» والذي هو وهذا مربط الفرس يحمل فكرًا مغايرًا عن فكرالدولة الأم برغم أن الإسلام هو ديانة الغالبية في مالي ككل، إلا أن الانفصال الذي يحمل طابعاً إسلامي التوجه برغم الاختلاف حول منهجيته والأسلوب الذي يتم تطبيقه به، هذا الاضطراب يرجع أولاً وأخيرًا إلى الخشية من بسط نفوذ الإسلاميين في المنطقة بل وقيام دولة إسلامية فيها بما يهدِّد كل مصالح الغرب الإستراتيجية ليس في الساحل فقط ولكن في كامل الغرب والشمال الإفريقي. ولهذا كانت التحركات الأوربية المتعجلة لاحتواء وإنهاء دولة الشمال ولو بتدخل عسكري حشد له الرأي العالمي بدءاً فأعلنت منطقة الشمال بؤرة لنشاط التنظيمات الإرهابية العالمية، وأيضاً وبنفس القدر وفي تضاد غريب، بؤرة لنشاط تجّار السلاح والمخدرات. ثم أعقب ذلك الزيارات المكوكية التي قامت بها وزيرة الخارجية الأمريكية إلى الجزائر مؤخرًا من أجل ضمان دعم الجزائر لخطة التدخل في شمال مالي. وأيضاً تأتي تصريحات وزيرة خارجية الاتحاد الاوربي في ذات السياق لتؤكد على ضرورة التدخل العسكري، انسياقاً وراء رغبة فرنسية محمومة لإنهاء وضع يهدِّد كل مصالحها في القارة، دون احتساب لما يمكن أن تدفعه مالي بل وكل دول الشمال الإفريقي ثمناً لهكذا حرب. وهو عين ما قالت به صحيفة «الدايلي مافريك» ونشرته في الأسبوع قبل الماضي حيث أكدت أن الجميع سيخرج رابحاً من هذه الحرب باستثناء مالي نفسها ودول الجوار. لقد خرج اجتماع «باماكو» الأخير بخصوص الأزمة المالية، والذي حضره ممثلون لإحدى عشرة دولة بالإضافة للدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن وممثلون ل«الأيكواس» والاتحاد الأوروبي والمنظمة الدولية الفرانكفونية، خرج بتوافق المجتمعين على تكوين القوة العسكرية اللازمة لاستعادة الشمال المالي وتحديد احتياجاتها ومهامها ومن ثم العمل على إنهاء الأمر قبل انتهاء المهلة التي حددها مجلس الأمن لذلك، وهي فترة زمنية لن تزيد عن الخمسة والأربعين يوماً. وفيما تعد فرنسا وأمريكا ومن ورائهما الاتحاد الأوربي بتوفير الدعم المادي واللوجستي والفني، فإن الدول الإفريقية والاتحاد الإفريقي ملزمان بتشكيل القوة المقاتلة التي ستقود الحرب على قوات الشمال المالي، وبحسب ما أعلنه وزير الدفاع الفرنسي فإن التدخل سيبدأ في غضون أسابيع فور تشكيل القوة العسكرية المقاتلة. إن الوضع المتأزم في مالي لا يعود فقط لانفصال الشمال المالي وتكوين دولة مستقلة، ولكن الخلافات السياسية المتعمقة في حكومة «باماكو»، برغم تشكيل حكومة وحدة وطنية، يجعل من العسير جدًا توقع استقرار في الأوضاع في مجملها ما لم تُجمع كل ألوان الطيف السياسي على الحد الأدنى من الاتفاق، وعلى الرغم من أن التكوين الفكري لكثير من القوى السياسية الجنوبية وبالضرورة الإسلامية الشمالية يرتكز على مبادئ سياسية وعقدية في المقام الأول، إلا أن التداخلات العرقية والقومية في النسيج الفكري هي شديدة التأثير وهو ما يعطي مؤشرات شديدة الخطورة في حال حدوث تدخل عسكري أجنبي، وقد يقود إلى حرب أهلية شاملة في مالي، سيطال أوارها الكثير من دول الساحل بحكم الكثير من التداخلات العرقية. إن الغرب الذي يتهافت الآن على إشعال الحرب في مالي بدعوى تهديدها للأمن والسلم العالميين، والذي يحشد آلته الإعلامية لتجنيد وبالعدم تحييد الرأي العالمي لقضيته، لا يدرك ولا يتسم بالاهتمام الكافي ليدرك ما يمكن أن تجرُّه هكذا حرب على المنطقة برمتها وهو في سعيه لتدويل أزمة الشمال المالي يغفل عن حقائق مهمة تتعلق ببنية الشعوب الإفريقية التي يتداخل فيها الديني بالعرقي بالقبلي. وهو ما يحتم بالأحرى أن تتدخل الدول العربية لحل أزمة مالي، فهي قضية عربية إفريقية بالدرجة الأولى ولا ينبغي على الإطلاق أن تتدخل فيها الدول الكبرى ولا مجلس أمنها بأي حال من الأحوال.