واضح أن مجادلي المعاظل، الذي يدمن المعاظلة، قد أوجعته مقالاتي التسعة، في عرض الفكر الجمهوري ونقده، وصارت عنده بمثابة دقاق الحصى، الذي يقض مضجعه، ويقلقه، ويضنيه. فأراد أن ينفس كروبه، بكتابة رد عليها، بعنوان (الإنتباهة تستعين بوقيع الله لتشويه الفكر الجمهوري). غير أن الرد أعياه وأعجزه، فازداد كروبًا على كروب. من يستطيع توظيفي؟! وقد عبر مجادلي المعاظل، في أول ما قال، عما كان ينعم به من راحة، وسعد، ورغد، بسبب تفادي أكثر الكتاب والباحثين، وتجافيهم عن التعرض لشأن الفكر الجمهوري. ومن ثم قال إن البعض قد قام بتوظيفي الآن، لكي أتصدى للنشاط الفكري الجديد، الذي أخذ يروج الأطروحات الجمهورية، انطلاقًا من مركز محمود محمد طه، بأم درمان. وغريب هذا الزعم القائل إن شخصًا ما يستطيع توجيهي، أو توظيفي. وهو زعم أغرب من الخيال وأبعد منه مدى. وذلك لأني شخص لا ينتظم في تنظيم، ولا ينسلك في سلك، ولا يتوجه بتوجيه أحد، كائنًا من كان. ويعرف ذلك عني حق العرفان، كل من يعرفني عن عِيان. متى كتبتُ المقالات؟ وثمة أمر آخر هو أن المادة التي نشرتها لي (الإنتباهة) أخيرًا، كنت قد كتبتها في أواخر سبعينيات القرن الميلادي المنصرم، ولم أكتبها حديثًا. يشهد على ذلك الأستاذ عبد المحمود نور الدائم الكرنكي، الذي سلمته مخطوطة تلك المادة، في اليوم الثاني والعشرين، من شهر أغسطس، من عام 1979، واستعدتها منه في أوائل عام 1982م. ثم أعدت النظر فيها عدة مرات، منها ما كان بُعيد مَهلك محمود، في عام 1985، ومنها ما كان بُعيد كارثة الحادي عشر من سبتمبر، من عام «2001م». واستفدت منها كثيرًا عندما حاضرت عن الفكر الجمهوري خمس مرات في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وعندما نشر جزء من هذه المادة أخيرًا بصحيفة (الإنتباهة) كانت مبادرة مني، اتخذتها بعد تردد جرى في خاطري، وتساؤل ألح على فكري، مفاده: هل تستحق أطروحة الحزب الجمهوري أن أبذل في سبيل مكافحتها مزيد عناء؟! ثم قرَّ عزمي على نشر المقالات، وزحمت بها بريد الصحيفة، بلا طلب منها. وقد اندهشت عندما علمت أن الأستاذ صاحب (الإنتباهة) اطّلع عليها، وأبدى فيها رأيًا حسنًا، سجله في رسالة نصية بعث بها إلى هاتفي المحمول. واتصلت بصاحب الرقم الباعث، وشكرته وقلت له: إنك لم تكتب اسمك على الرسالة، فعرفني إذن بشخصك الكريم. فذكر اسمه، وزاد فاقترح أن تطبع المقالات، بعد تنقيحها، في كتاب. فويل إذن لمجادلي المعاظل، وويل له، بصدور هذا الكتاب، عن قريب إن شاء الله. والكتاب جاهز في الحقيقة للنشر منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ولم تُنشر منه إلا هذه المقالات التسعة المنتخبات. فشكرًا إذن للأستاذ الطيب مصطفى الذي حض على نشر الكتاب. وشكرًا إذن لمجادلي المعاظل الذي أفزعته المادة، وأرعبته، فتأكد أثرها الخطير عليهم، الأمر الذي يدعوني للتعجيل بنشر الكتاب، في أسرع وقت، بحول الله. من يبيع ماذا؟ ولأن مجادلي المعاظل يئس من جدوى أفكاره الجمهورية، ورأى نفور الناس منها، فقد قرر أن يلتحق بخدمة أعداء الدين والوطن بجنوب السودان. واستخدم من قِبل تلك الدويلة، ومن قِبل حركتها الإرهابية، المسماة بالحركة الشعبية لتحرير السودان من أجل الترويج لأطروحاتها العنصرية العلمانية، التي تريد أن تحكم بها السودان. ولذلك ظن أني يمكن أن أُستأجَر مثله، وأنه يمكن لأصحاب الأموال والنفوذ، أن يستخدموني أو يوجهوني لما يريدون. أو أني أطمع في متاع الدنيا الدنيئة كدناءته. فقال: «إن تملق وقيع الله لحكومة المؤتمر الوطني، لم يكن كافيًا ليمنحه منصبًا، مثل بقية المتملقين، فهل تكفي مقالاته التسعة ضد الجمهوريين، لتعطيه ولو وظيفة ملحق في سفارة؟! ربما ساعده خال الرئيس في ذلك ولم يكن نصيبه فقط حق (الإجارة) على هذه المقالات المتهافتة». والحق أني ما هفوت إلى وظيفة حكومية قط. ولو كنت أهفو إلى وظيفة، أيًا كانت، لنلتها من دون استعانة بخال الرئيس، أو بغيره من النافذين. بل كنتُ قد نلتها من زمان بعيد، وليس الآن، بعد أن بلغني الكبر، وأشرف العمر على نهايته، وأوشكت على بلوغ سن التقاعد الإجباري على المعاش. فهذا منطق لا يقول به إلا معاظل مجادل مثلك، يمتهن المنطق، ولا يبالي بتسخيف الناس لما يقول. ولو سلمت لك جدلاً أني أطلب وظيفة ما، من وراء كتابتي للصحف اليومية، فهل يا ترى أطلبها بكتابة مقالات عن الجمهوريين؟! ولماذا أتوقع أن أُمنح وظيفة فارهة، جراء اهتمامي بمكافحة داء إيديولوجي، لا تهتم الحكومة نفسها بمكافحته، ولا تستشعر خطره؟! ألا إن الحكومة السودانية في وادٍ وأنا في وادٍ آخر لا يلتقيان. وقد كان هذا من صميم اختياري الشخصي، فقد قررتُ منذ الريعان، ألا أبرح ساحة الفكر قيد شبر. وقد بررت بذلك حتى الآن، وسأبقى عليه إلى آخر الأوان، بإذن الرحمن.ولن أندرج، ما حييت، في سلك وظيفي، حكومي، يقيدني، ولو بقيد من نضار. فوظائف الحكومة، التي تستهويك، وتستهوي أشباهك، هي وأهلها، مني تحت القدمين!