أثار القرار الرئاسي بإقالة رئيس آلية مكافحة الفساد الدكتور الطيب أبو قناية عدة تساؤلات، نظراً لكونه جاء في توقيت حساس وظروف غامضة، كما أن عنصر المفاجأة أضاف بعداً جديداً في «الإثارة والغموض»، هذا فضلاً عن أن القرارات الجمهورية غالباً ما تترك مساحات واسعة للتأويل والتكهنات، لجهة أنها تصدر دون توضيح للملابسات والحيثيات.. إلى جانب ذلك فإن إقالة مسؤول في قمة آلية معنية بمحاربة الفساد يضفي أيضاً نوعاً من «الإثارة» خاصة أن قضايا الفساد هي من أكثر القضايا لفتاً للأنظار وأكثرها إثارة لاهتمامات الناس.. هذا علاوة عن أن إقالة مسؤول مثل الدكتور الطيب أبو قناية الذي عُرف بالاستقامة وطهر اليدين والصرامة والحسم في وقت يتصاعد فيه الحديث عن الفساد بصورة مذهلة، أمر يشكل أيضاً مناخاً مناسباً لتنامي الشائعات التي تثير اهتمام الشارع العام. أسباب الإقالة الآن وفي مثل هذه الظروف تقتحم الأذهان عدة أسئلة واستفهامات، لكن السؤال الجوهري الذي نحاول الإجابة عليه من خلال هذا التحليل هو: لماذا أُقيل أبو قناية من منصبه، وما هي الظروف والملابسات التي دفعت رئاسة الجمهورية لهذه الخطوة المثيرة للجدل في هذا التوقيت الحساس؟! للإجابة على السؤال المطروح لا بد من الإشارة إلى أربعة سيناريوهات يمكن أن تشكل معطيات جيدة للإجابة الصحيحة عن السؤال المطروح، في ظل غياب المعلومات الرسمية عن أسباب الإقالة، ونحاول من خلال السيناريوهات الأربعة كشف جانب من أوجه الغموض طالما أن التكتم على الأسباب مازال سيد الموقف من الحكومة وأبو قناية نفسه على حد السواء، ونشير إلى هذه الاحتمالات على النحو التالي: السيناريو الأول: الوصول إلى مناطق الألغام الناظر إلى الظروف المحيطة بقرار إقالة أبو قناية يتبادر إلى ذهنه أن الرجل الذي ظل يعمل في صمت وجدية وحسم ربما توغل في مناطق الألغام، وهي مناطق يُعتقد بسيطرة مراكز القوى التي تحمي الفساد عليها، وأن جهات ليس من مصلحتها بقاء أبو قناية في منصبه ربما عملت على التأثير في اتجاه إصدار القرار بإيجاد معطيات تجعله منطقياً ومقنعاً لمتخذيه، ويعزز هذا السيناريو الذي يحظى بدرجات متفاوتة من الترجيح عدة ملاحظات يمكن إجمالها في الآتي: 1 الأجواء السائدة التي يتصاعد فيها الحديث عن انتشار الفساد في ظل غياب الشفافية في المساءلة وعدم تقديم من حامت حولهم تهم للمحاكم بشكل علني حتى الآن، كل هذه المعطيات تعزز فرضية الاحتمال الأول الذي يشير إلى سيناريو الدخول في مناطق محصنة بمراكز القوى. 2 استغلال بعض المعارضين ملف الفساد والتأكيد على عدم قدرة الحكومة على محاربة الفساد باعتبار أن الفساد جزء من حماية النظام نفسه، كما يرى وزير الأمن الأسبق العميد عبد الرحمن فرح في حديثه ل «الإنتباهة» في وقت سابق، وهو أمر يعزز ذات السيناريو. 3 تداخل بعض ملفات الفساد مع بعضها وتعقيدها للدرجة التي تبرر بعض أوجه الفساد، وهذا الأمر إذا صح يجعل المساحة والصلاحيات الممنوحة لأبو قناية ضيقة جداً ولا تسمح له بالتمدد إلا في نطاق التنسيق فقط مع الجهات المنوط بها محاربة الفساد. السيناريو الثاني: الإقالة بسبب التستر أو الضعف من السيناريوهات المحتملة أيضاً في تفسير ما حدث هو ربما أن أبو قناية عجز تماماً عن مواجهة كبار تماسيح المال العام وجهابذة الفساد بصوره المختلفة، وعجز عن مجابهة مراكز القوة التي تحمي الفساد في نظر الكثيرين، وذلك بسبب ضعف الآلية نفسها أو أن آلية أبو قناية تسترت على بعض الملفات، غير أن هذا السيناريو حظوظه في الترجيح ضعيفة إلى حد كبير نظراً لكثير من المعطيات. السيناريو الثالث: الاستقالة قبل الإقالة في كثير من الأحيان يحدث في الأنظمة غير الديمقراطية أن المسؤول إذا اعترض على سياسة معينة من سياسات الحكومة وسجل موقفاً نبيلاً على الصعيد الفردي يمكن أن يكون خصماً على الموقف العام للحكومة، ويعطي إشارات سالبة تحسب عليها وقام في الوقت نفسه بتقديم استقالته، في هذه الحالة تُرفض الاستقالة ويستعاض عنها بالإقالة حتى لا ينال شرف الاستقالة، ولإعطاء الانطباع بأنه ارتكب خطأً أدى إلى إقالته، وهذا السيناريو يتكرر دائماً في الأنظمة والحكومات غير الديمقراطية، ولهذا سيظل ضمن السيناريوهات المحتملة في تفسير ما حدث. السيناريو الرابع: تجاوز الصلاحيات ويمكن أيضاً تفسير ما حدث من خلال قراءة قرار تعيين أبو قناية في يناير من عام 2012م، حيث أشار القرار وقتها إلى أن الهدف من تشكيل الآلية هو التنسيق بين رئاسة الجمهورية والجهات المختصة بوزارة العدل والمجلس الوطني لاستكمال المعلومات والتقارير التي تُنشر في وسائل الإعلام. والناظر إلى النص أعلاه لا يستبعد أيضاً أن يكون قرار الإقالة ربما جاء نتيجة لتجاوز أبو قناية الصلاحيات الممنوحة له وتخطي حدود التنسيق مع رئاسة الجمهورية والجهات المختصة بوزارة العدل.. إذن هذه محاولة وفرضيات للإجابة عن السؤال المطروح حول أسباب ودوافع إقالة أبو قناية من خلال هذه السيناريوهات الأربعة، لعلها لا تخرج عن الاحتمالات المشار إليها في سياق التحليل.