أُتيحت لي الفرصة لزيارة إندونيسيا.. لم أفكر يومًا في الذهاب إليها ولكن لدواعي المراحل سلطانها.. المسافة من الخرطوم إليها تبلغ حوالى (أربع عشرة) ساعة توزعنا فيها ما بين مطار اليمن ومطار دبي ومطار كوالالمبور إلى أن دخلنا إلى جاكرتا العاصمة الإندونيسية.. وصلنا الساعة السابعة إلى مطار سوكارنو الدولي بتوقيت إندونيسيا وبتوقيت السودان كانت الساعة الثانية ظهرًا .. أول ما تلمسه من أشياء عند قدومك المطار الزحام الكثيف.. وكمية السياح الذين تهبط بهم الطائرات على استمرار يأتون زرافات ووحدانا من عرب وعجم.. المطار كبير وحديث والمقارنة بينه وبين مطاراتنا تكاد تنعدم تمامًا والمطار يحمل اسم محرر إندونيسيا الزعيم سوكارنو... الشعب الإندونيسي شعب طيب للغاية.. ودود لأبعد الحدود.. يبتسم في وجهك لسبب وبدون سبب. يبادر إليك محييًا.. معتز بثقافته ولغته.. التي هي خليط من الإنجليزية وبعض مفردات من العربية. والعجيب أنهم لا يعرفون شيئًا عن السودان وأهله وقد تعاني في توصيل موقع السودان لهم ولعل من استقلينا معه السيارة وهو يحسب من المثقفين.. لا يعرف (هو) شيئًا عن السودان.. تحت محاولة تعريفي له بالسودان أخرج هاتفه المحمول ودخل إلى محرك البحث قوقل ويطلع بنفسه على التفاصيل الخاصة ببلادنا.. والكثيرون على شاكلته لا يعرفون عن السودان شيئًا ولبلادنا سفارة بجاكرتا وجالية أيضًا حق لنا أن نباهي بها وأدوارها في استغلال كل مناسبة للتعريف بالبلاد.. وللسفارة دورها المشهود الذي لا يغمط في التعريف بالسودان وواقعه لكن هذا لا يمنع من القول إننا نحتاج بعض الجهد في دفع عجلة الحراك بين الشعبين وفتح آفاق أخرى للتعاون بما يخدم مصالح الشعبين.. وربما بدأت أولى ثمار ذلك التعاون في التنفيذ وسنعود لهذا لاحقًا.. تبهرك جاكرتا.. بطبيعتها وبفنون عماراتها.. حيث ناطحات السحاب المباني الفخمة والمبنية على طراز حديث والخضرة تكسو جنباتها.. والمطر يهطل بشكل يومي يجعل من حمل المظلة شكلاً مألوفًا وهناك مثل أندونيسي مشهور يجعل من عَرف أوان المطر ولم يحتاط بالمظلة فإن اللوم يقع عليه.. وإندونيسيا أقرب للعواصم الغربية في طقوسها الليلية بصخبها وحركتها المستمرة وزحامها الذي لا يخف. حتى نجدها عند بعضهم بأنها باريس آسيا.. غادرنا جاكرتا في طريقنا إلى باندونغ (الفتية) التي غنى لها الكابلي في أغنية آسيا وإفريقيا التي احتضنت قمة دول عدم الانحياز في عام (1955) الذي كان الأزهري فيه حضورًا. ولا يزال المتحف الأندونيسي يحتفظ بمنديل الأزهري الذي اتخذه علمًا ودليلاً.. في وقت لم تدخل التجاذبات بين الألوان بتمايزها وتعددها إلى واقع سياستنا.. باندونغ بلدة خضراء يقصدها كل السياح.. الطقس فيها بارد للغاية مقارنة بجاكرتا.. وكذلك زحمة السكان أقل.. الخضرة تغطي كل جبالها ما ينعكس جمالاً على جمالها. ومنظر السحب وهي تعانق الجبال آية من آيات الله في جنة الأرض إندونيسيا أكاد أجزم لا أحد يصدق ما لم يرَ بعينه ذلك المنظر والجمال البديع.. ويا سبحان الله.. ولعل ذلك كل السياح يقصدون جبالها التي تخرج عيونها مياهًا حارة تبلغ حرارتها بأن يسلق البيض فيها ويقدم طازجًا.. ولعل مزاحمة الناس لها تنبع من أنها تساعد في شفاء الأمراض والأسقام وللإندونيسي فيها أساطير ومعتقدات وللسياحة في إندونسيا واقع خاص.. يتوافد العالم عليها بقضه وقضيضه.. والإندونيسيون بطبعهم يدركون عظمة بلادهم وما حباه الله بها من الجمال والطبيعة الخلابة.. فأحسنوا توظيف ذلك الواقع بما يكون المصدر الأول لهم في الانفتاح على العالم والدفع بها لتنمية اقتصاد الدولة ورفاهية السياح والمواطنين.. فأدركوا هدفهم وقدموا الوجه الأجمل لبلادهم ونشروا ثقافتهم وجعلوا للغتهم حيزًا ومكانًا بين لغات العالم.. بعض الإندونيسيين يعتقدون أن بلادهم بما تزخر به من إمكانات مهولة وخيرات مختلفة متأخرة بعض الشيء ولو وظفت تلك الإمكانات لجعلتها في مصاف الدول الكبرى والنامية ولكن للسياسة دورها في أي مكان.. ومع ذلك فإن إندونيسيا لا تزال تحلم بمستقبل باهر. وهم يركزون جهدهم على التعليم وينفقون عليه بلا حساب.. فقد استفادوا من مخرجات التعليم فتعاونوا على الزحام بالتخطيط السليم وإقامة الشوارع والكباري الطائرة ذات الطوابق والارتفاعات وتعايشوا مع الطبيعة.. تهطل الأمطار باستمرار فلا ترى لها أثرًا حتى وقت هطولها (الكثيف).. فلا غرو فقد نهضت جل الدول الآسيوية بالتعليم.. وحقًا لا نهضة للدول إلا بالتعليم. حقيقة يجزم كل زائر للبلاد الآسيوية بأن المستقبل لتلك البلاد نظرًا للطفرة الكبرى التي مرت بها المنطقة فقد نهضوا بعد سبات عميق.. وتحسسوا مواقعهم من العالم الخارجي بتوظيف الطاقات ومخرجات التعليم وأطلقوا العنان لعقولهم في التفكير والإنتاج.. فشيدوا بلادهم ونهضوا بأوطانهم.. ولا يزال المستقبل يمدّ أيديه مصافحًا لهم..