لاتزال تونس تبعث إلينا بالرسائل التي تستحق القراءة والاعتبار. بعد الثورة التي حصلت فيها حركة النهضة على الأغلبية البرلمانية في انتخابات المجلس التأسيسي، توافقت الأحزاب الثلاثة التي حصلت على أعلى الأصوات على اقتسام السلطة. وبناء على ذلك تولى الدكتور المنصف المرزوقي رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (ليبرالي) رئاسة الدولة، وانتخب الدكتور مصطفى بن جعفر رئيس حزب التكتل من أجل العمل والحريات (علماني يساري) رئاسة المجلس التأسيسي (الأقرب إلى البرلمان) وتولى السيد حمادي الجبالي الأمين العام لحزب النهضة رئاسة الحكومة. هذا التحالف الثلاثي (الترويكا) تولى تسيير شؤون البلد منذ شهر ديسمبر عام (2011) وبسبب التركة الثقيلة والمشكلات المتراكمة واجهت الحكومة صعوبات بعضها متعلق بالأوضاع الاقتصادية والبعض الآخر وثيق الصلة بالأجواء السياسية والأمنية، وعمليات التحريض والاحتقان التي أسهمت فيها أحزاب المعارضة. إلى أن وقع حادث اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد، الذي لا يزال يجري التحقيق فيه، وإن كان البعض قد سارع إلى اتهام حركة النهضة بالمسؤولية عن الجريمة. إلى غير ذلك من التداعيات التي نعرفها ونعيشها في مصر. حيث تقوم عناصر المعارضة بنفس الدور، كما تتولى وسائل الإعلام مهمة الاصطياد والتحريض وتعميق الاحتقان والانقسام. طوال الأشهر التي سبقت حادث الاغتيال ظل الموقف الإستراتيجي الذي تبنته قيادة حركة النهضة يتمثل في الحرص على وحدة القوى الوطنية وتجنب الانقسام في البلد. وكان ذلك ما دفع الشيخ راشد الغنوشي رئيس الحركة إلى التخلي عن فكرة النص على مرجعية الشريعة في دستور تونس الجديد، والاكتفاء بما هو مستقر في الدستور منذ الاستقلال بالنص على أن تونس بلد عربي دينه الإسلام. إلا أن عمليات التحريض السياسي المقترن بالتعبئة الإعلامية المضادة كان لها دورها في تسميم الأجواء، وكان حادث الاغتيال فرصة لتصعيد الاشتباك من جانب المعارضة. وهو ما دفع رئيس الوزراء إلى الإعلان، دون الرجوع إلى حزبه، عن رغبته في حل الحكومة المنتخبة، وتشكيل حكومة جديدة غير سياسية (من التكنوقراط). وكانت وجهة نظره في ذلك أن الغيوم تلبدت في تونس بسبب الخلافات والتجاذبات قد ملأت الفضاء التونسي. إضافة إلى ذلك، فإن بعض الفئات عبرت عن سخطها على الحكومة سواء لأنها لم تحل مشكلاتها لسبب أو آخر، أو لأن جماهيرها رفعت سقف توقعاتها بأعلى من قدرات الحكومة. أيا كان السبب فإن السيد حمادي الجبالي سعيًا منه إلى تهدئة الأجواء السياسية وإرضاء للفئات الغاضبة أعلن موقفه وراهن على تغيير الحكومة، باعتبار تلك الخطوة أحد الحلول التي تسمح له بتجاوز الموقف المعقد الذي آلت إليه الأمور. وفي الوقت ذاته أعلن عن تشكيل لجنة حكماء من (16) شخصية عامة للتشاور معها في حل الأزمة التي تمر بها تونس. الإعلان رحبت به قوى المعارضة وعارضه آخرون، لكن المعارضة الأهم جاءت من داخل حركة النهضة ذاتها التي ينتمي الرجل إليها، إذ اعتبرت أن الحكومة الحالية جاءت بها الانتخابات وتمثل الشرعية، في حين أن حلها والإتيان بحكومة تكنوقراط مختارة يمثل انقلابًا على الشرعية، وإزاء إصرار الجبالي على موقفه، ورفض حركة النهضة لمقترحه، فإن الرجل ذهب إلى رئيس الجمهورية وقدم له استقالته من منصبه. ولأن ذلك تم خلال الثماني والأربعين ساعة الأخيرة، فليس معلومًا بعد ما هي الخطوة التالية، وهل سيكلف الرجل بإعادة تشكيل الحكومة بعد التوصل إلى حل وسط معه، أم أن حركة النهضة صاحبة الأغلبية سترشح قياديًا آخر من أعضائها ليحل مكانه. أرجو أن تكون قد لاحظت الرسائل التي أشرت إليها في البداية. من ترويكا الحكم، إلى المرونة في كتابة الدستور لتجنب الانقسام بين القوى الوطنية، إلى مسارعة رئيس الوزراء إلى تغيير حكومة السياسيين واقتراح حكومة من التكنوقراط، إلى دعوته لجنة من حكماء البلد وخبرائه للبحث عن مخرج من الأزمة، إلى تقديمه مصلحة الوطن على مصلحة الجماعة، انتهاء باستقالته من منصبه حين لم يقبل اقتراحه. لقد استعدت هذه القصة بتفاصيلها التي لها شبيهها في مصر، وأنا أفكر في وضع حكومة الدكتور هشام قنديل التي أصبح ضعفها وسوء الأوضاع في ظل استمرارها محل إجماع وطني. فضلاً عن أن الرجل المشهود له بالإخلاص والخلق الرفيع كان قد حصر رهانه الأساسي على قرض صندوق النقد الدولي وما سوف يوفره من غطاء مالي من جهات أخرى يقدر بنحو (14) مليار دولار، إلا أن ذلك الأمل تبدد في الوقت الراهن، الأمر الذي أوقعه في حيرة حيث لم يجد ما يراهن عليه. ومع ذلك فهو لا يزال باقيًا في منصبه، في حين أنه لو اقتدى بالسيد حمادي الجبالي بعدما فشل رهانه، فإن ذلك سيكون أشرف له وأكرم، ذلك أنه سيخرج من الحكومة محتفظًا بقامته. بدلاً من خروجه مكسور الجناح ومستبعدًا من حكومة ما بعد الانتخابات القادمة.