لعل الحقائق التي يعضدها البيان، ويحفُّ بها البرهان، أن القطاع الذي تخيّفته نوازل الأحداث، وطحطحته دوائر الأيام، محتدم الهم، مشتعل الغم، للرزء الفادح، والخطب العظيم، الذي ألمّ به بعد أن ولّى البغي مغلولا، وذهب الزيغ مقصوعا، عن «مفو» الشامخة الأبية، التي كانت جنة واقية، وعَصَر كافِ، وسند حافظ، لجرذانهم التي لاذت بالفرار حينما ثارت الوقعة، واتقدت الملحمة، واحتدمت الهيجاء، فقواتنا المسلحة صاحبة النصيب الأوفى من البأس، والقدح المعلى من الشجاعة، والحظ الأكفى من الإقدام، والقسط الأجزل من التضحية، انقاد لها الصعب، وسُلِسَ لها المقاد لتميط عن «مفو» الشنار، وتأخذ بها من الصغار، الذي رسخ له أصل، وسمق له فرع في حواشيها التي أسرف عقار في قطع الوعود بأسلوبه الفج الخالي من الزخرف والبريق والرواء، لأعداء الحق، وعرصة الباطل، وشيعة الغي جنده بأن ثرى النيل الأزرق سوف يذلل خده لأسراب جيشه الجسور، وأنّ حاضرة الولاية الدمازين التي زرع فيها الفجور، وسقاها الغرور، وحصد الثبور، سوف تقضي ليل اقتحامه إياها في كدح وضجيج، متناسية كروبها الداجية بعد عودته الظافرة، نعم وهل يماري في ذلك أحد؟ فالدمازين أيها الوالي الهمام دائمة القرم إلى مناسمتك، والتشوق إلي محادثتك، ولكن ليس بثغرها الباسم، وفمها الضحوك، بل بفوهة المدفع، ودوي الدانة، وزمجرة الكلاش. إن العدوان على السودان، والتحرش بعقيدته السمحة المسالمة، هما في مقام القدسية والجلال عند قطاع الشمال، ولعل الهدنة التي يلهث لنيلها من يشكون العلل والأسقام بعد قاصمة الظهر «مفو» طلباً معتاصاً، وابتغاءً معجزاً، فمن حاص عن الرشد، ونكب عن الدين، ويمشي بقامة منصوبة في مواخير العمالة تزري بالرمح المسنون، يجب أن نولي صيحاته دبر أذاننا، ونقدم على طمس معالمه بدم بارد، ونفس مطمئنة، فقد قامت الشواهد على أنه ظلّ طوال دهره يقدم صوراً من البيان الوهاج عن ترهات وأراجيف تزلزل رواسي الجبال، وإن شاب هذه الترهات شيء من حقيقة، فقد عانى الوطن الذي تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات، من كيد هذه الناجمة التي رمته بكل دميم وقبيح، ولم يدفع عقابيل مكرها وشرها إلا بنضال عنيف، إن اليقين الذي لا يخامره شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن عقار وعرمان ليس هما من عناوين النجابة والمروءة في هذه الديار، ولكنهما حتماً عند من يحاولون أن يحيلوا هذه البلاد إلى بقاع متهالكة ترزح تحت أغشية البوار والدمار هبة قلّ أن يجود بمثلها زمان، فنعمة العميل الخائن أعظم من جميع النعم، وأنفس من جميع الذخائر، عند دول البغي والاستكبار، فبعض دول الغرب البغيضة التي تتجنى علينا بلا رحمة ولا اشفاق، نتوهم أحياناً حينما نراها تؤاخينا وتصافينا، أن بيننا وبينها رحم ماسة، ونسب شابك، ولكنها تتحول في ومضة عين إلى عدو غاشم، لا هاجس له سوى محق شأفتنا، وذهاب أرومتنا، هذه الدول تجمعها بصناديد القطاع ودٌ شفيف، وعلائق واشجة لا تنأى عن شوائب المصلحة، لأجل ذلك يجد قبيح القالة القطاع في كل ملمة معينًا، وفي كل نكبة مجيرًَا. لقد اختلف النجر، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، فلم يجد قطاع الشمال مناصاً سوى طلب الهدنة، حتى يوثق عرى الخزي، ويوطد أركان النذالة، ويعد لسابق عهده منتزعاً عبارات الرضا والثناء من أفواه سادته، ومما لا يند عن ذهن، أو يغيب عن خاطر، أن جلّ رواد هذا القطاع المشنوء الذكر ليس في حوزتهم من موارد الثقافة والفكر ما هو قمينُ بأن يعصمهم من الخطل والزلل، فمالك عقار صاحب العمالة الفجة، والتبعية المكشوفة، الذي ينبري في وصلات من الردح والشتائم لكل ما يمت للشمال بصلة، لم نرَ له صدقاً في عهد قطعه، أو اتفاق أبرمه، أو تنمية أمضاها، بل لم نرَ في ثنايا خطبه، وخطفات أحاديثه، ومضات من ثقافة ثرة، أو معرفة راسخة، أما عرمان الذي طغت في عينيه أغشية الضلال، هو معقد الرجاء، ومناط الثقة، عند من لا تنحسر عنهم لثام الشبهات، أو تنتفي دونهم دياجير الريب، في تفتيت وحدة هذه البلاد المنكوبة، وذهاب ريحها. أما بعد، ما أتمناه من أرباب الحكم والتشريع الا ينجرفوا عن جادة السبيل، ويرضخوا لإملاءات السعلاة ورصيفاتها، فالحركة الشعبية وابنها النغل قطاع الشمال يحتالون عند العجز احتيال الذئاب، ويفترسون عند القدرة افتراس الأسود، على المتقلبين في السيادة، والمضلعين برعاية الذمام، ألا يخذلوا أصحاب الأجسام الضاوية، والثياب البالية، الذين مطالبهم أكبر من رفض التفاوض، وآفاقهم أرحب من نبذ الهدنة، فما يتوق إليه هذا الشعب الصامد على عرك الشدائد هو استئصال هذا القطاع، ومحق جرثومته، وطمر الحركة الشعبية التي تذود عنه وترعاه في عُقر دارها.