جلس أبو حمزة الشاري يبكي زملاءه الأبرار، الذين استشهدوا وقد تناثرت أجسادهم بين مناقير طيور الخلاء. جلس أبو حمزة يبكي وحيداً، والجاحظ يمسح عنه دموعه، ويربت على ظهره!. وآخرون بين آونةٍ تطلّ وأخرى، يتملّون النَّظر تأساءً وتعزيةً، في المنسيِّين الذين سامحوا بمهجهم توقاناً وشوقاً، وهم يسبقون ضياءً ونوراً، ويعبرون إلى لقاء الله الحنّان، يلتمسون النظر إلى وجهه الكريم... وفي هَنَاءة النّظر إليه يتحنّن عليهم، فيتمتَّعون بحنانٍ بعد حنانٍ... في تسلسل أبدىّ... وسكونٍ سرمديّ. كانت العرب تقول سبحان الله وحَنَانْيه، كما تقول سبحان الله ورَيْحانه أي استرزاقه. المنسيّون مثل التسابيح لا يضرّك بأيهم بدأت، قدّموا حياتهم من أجل بلادهم وحرّيتها، ابتغاءً لوجه الله. ومن يفعل ذلك حقيق بالتقدير والإعجاب والإكبار من الناس كافة. المنسيّون كانت مشاركتهم في العمل العسكري عام 1976م، بناءً على قرار من الحركة الإسلامية. كانت مشاركتهم تعبيراً عن التزامهم بقرارات الحركة، والتزامهم بالفداء والتضحية بالنفس من أجلها. لكن الحركة الإسلامية، عندما وصلت إلى التمكين والحكم في السودان عام 1989م، أسقطتهم من ذاكرتها!. تلك أزمة اخلاقية أن تنعدم الوفاءات في الحركة الإسلامية. المنسيون حسن عوض الله (كلية العلوم)، وحسن سليمان (كلية الهندسة)، وعبد الرحمن محمد إميلس (كلية الزراعة)، وعبد الإله خوجلي (كلية الطب)، وعبد الله ميرغني (كلية البيطرة)، وإدريس هِمَّت (كلية التربية)، وختم أحمد عبد الكريم، وعبد الفضيل إبراهيم (كلية الآداب)، وحافظ جمعة سهل (كلية التربية). لماذا نسيت ثورة الإنقاذ شهداء الحركة الإسلامية؟... ولماذا نسيت الحركة الإسلامية شهداءها قبل 1989م؟. المنسيّون... حسن عوض الله التقيّ الخفيّ... قاد عملية دار الهاتف. كان آخر قراءاته صحيح الترمذي (تحفة الأحوزي). قبل أسابيع من مشاركته العسكرية، كان يقيم برفقة عبد الحليم المقبول ومهدي في منزل يسكنه الصافي نور الدين وعبد الله أحمد المصطفى المقلي. كان إعدام حسن عوض الله في القصر الجمهوري. حسن سليمان... صادق العاطفة كان يصلي إماماً في مسجد داخليات البركس، قبل بناء مسجد جامعة الخرطوم بجهود الراحل محمد كبير محمد عز الدين وإدريس إبراهيم طه وإخوتهما. قبيل شهور من مشاركته العسكرية إلتقيت حسن سليمان بعد إحدى الصلوات في (البركس) وقلت له مصادفة: تعال اسمع هذا الشعر وذلك لمعرفتي له بحبّ الشعر: وكُنتَ الفَتَى حِينَ عَزَّ الفداء... وماذا يَردُّ الفتى إن عَزَمْ... فإن جمَّعوا لكَ أو طاردوكَ... فما أنتَ بالخاسر المنهزِمْ... وإن قتلوكَ فَهُم ظالمون.. وأنتَ الإمام الشّهيدُ العَلَم.. فنظر إلىَّ حسن سليمان متسائلاً: وكيف عرفت ذلك؟ قلت له: عرفت ماذا؟... هذا شعر في استشهاد الإمام حسن البنا منشور في جريدة (الشهاب) اللبنانية. بعد زمن طويل أدركت أن حسن سليمان حينما قال (وكيف عرفت ذلك؟)، كان يعتقد أنني قد عرفت موضوع مشاركتهم في عمل عسكري، وإن أسرار مشاركتهم قد تسربّت. لذلك بدر لي حينها سؤاله وكيف عرفت ذلك ينطوي على بعض الحيرة. المنسيّون... مهديّ... (إسمه الحقيقي محمد أحمد يوسف)... ذلك الوديع الذي صدع إعدامه القلوب فأبكاها بِحُرقَةٍ. عبد الرحم إميلس... هاديء السمت... ودود... محترم وطاقة جبّارة في العمل التنظيمي. عبد الإله خوجلي... الذي شهد الناس منه كلّ ما يجْمُلُ في عين التُّقَى... كان سيغيب عن ذاكرة الأجيال الجديدة... لولا شقيقه الأخ العزيز حسين خوجلي. عبد الله ميرغني قائد عملية المطار (شقيق الصحفي الأخ العزيز المحترم عثمان ميرغني) . عبد الله ميرغني العابد الذي يتَّقي الله في الأمور كلِّها... وقد أفلح من كان همُّه الإتِّقاء. إدريس هِمَّت الذي حمل الجرح صابراً مطمئناً... وأتى ربّه على ميعاد. ختم أحمد عبد الكريم.. تلك قبور تنفّس الطِّيبُ منها... ما حدا باسمها على الدّهر حاد. لكن أين قبورهم؟. قبور المنسيين منسيّة مثلهم!. لقد صودر منهم حقّ الحياة، وحقّ أن يكون لهم قبر!. ما أكرم أن يتمّ التحقُّق من مقابرهم المجهولة. هل قبورهم في الحزام الأخضر... في الميناء البري... في السوق المحلي... أم أين؟. منطقة الحزام الأخضر هي منطقة المقابر الجماعية للمعارضين السياسيين في حقبة حكم النُّميري. وغير بعيد أن تتضمن بعضاً من مقابر المنسيِّين. لكن لماذا منطقة الحزام الأخضر تحديداً!. ذلك لأن واحداً كان من ضمن المنسيِّين قد ذكر ما يفيد بذلك. إذ كان من ضمن المنسيِّين الذين شاركوا في العملية العسكرية الدكتور مصطفى ميرغني (كلية البيطرة) ، شقيق (هاشم ميرغني)، والذي استشهد قبل قرابة (8) أعوام في مناطق البترول (هجليج) في حادث حركة. وقد ذكر الراحل د. مصطفى ميرغني أنه قدّ تمّ القبض عليه يوم 2/يوليو 1976م، في وسط الخرطوم مساء يوم العملية، بعد فشلها، ورُفِع على شاحنة عسكرية (مجروس) مع آخرين مشاركين، واتَّجه بهم (المجروس) إلى الحزام الأخضر لتنفيذ الإعدام، لولا أنه تحدَّث بالرطانة مع أحد الجنود، حيث نادى الأخير على السائق فتوقف (المجروس) وطُلب منه أن ينزل فنزل. وتحرك (المجروس) ببقية المشاركين إلى الحزام الأخضر لتنفيذ الإعدام. توقُّعي أنّ الشهيد مهدي (محمد أحمد يوسف) كان أحدهم، لأنه صلى مساء ذلك اليوم في مسجد الخرطوم الكبير، غير بعيد عن مكان الإعتقال والترحيل ب (المجروس). لقد استُكثِر على المنسيين حتى تسمية الشوارع بأسمائهم، بينما تجد بعض شوارع الخرطوم تحمل أسماء ضباط جيش غردون باشا، ممن قتلوا العلماء المجاهدين الذين ثاروا ضدّ غردون باشا!. المنسيّون... عبد الفضيل ابراهيم.. الحييُّ الودود... المرِح... دائماً ضاحك... لا يعرف اليأس... ولا تخيِّم عليه ولا مرّة واحدة سحابة الحزن... لا يعرف الملل من العُشرة... ولا يسأم الناس... ولا يلقي معاناته غضباً وسَخَطاً عليهم... كان لا يصيبك من معشره الجميل إلا وابلٌ أو طلّ. قبل مشاركته العسكرية بستة شهور، كنا نسكن معاً مدة ثلاثة شهور، في منزل الأخ الكريم النبيل شيخ إدريس عمر بركات في الجريف غرب... أسرة كريمة لو زارها حاتم الطائي لتوارى خجلاً من كرمها الحاني... كان عبد الفضيل على وشك أن يتقدم لطلب يدّ خطيبته (س) في كلية (X) بجامعة الخرطوم، كان يطلعني على عاطفته نحوها. ولكن لم يطلعني على مشاركته العسكرية، فقد غادر المنزل بدون تفاصيل قبل (3) شهور من مشاركته، وذهب لوداع عائلته، ثم لم يعد ولم نلتقِ بعدها... كان عبد الفضيل يحدثني عن عباس برشم الذي كنت أسمع به، ولكني لم أعرفه أو التقي به... قال إن عباس برشم كان رفيقه في سجن كوبر بعد ثورة شعبان 1973م، وان برشم كان متعبداً يستقيظ باكراً لصلاة الفجر ورقيقاً يبكي في صلاته. ذلك ضاعف أحزاني على عباس برشم الذي أعدمه جعفر نميري عقب انقلاب سبتمبر 1975م... عبد الفضيل مهذّب في حياءٍ وودِّ وبراءة تطلّ من عينيه كبراءة الطفل الذي مازال عند العاشرة... وقد بكى الراحل العزيز أحمد عثمان مكي عندما بلغه تنفيذ حكم الإعدام في عبد الفضيل. ذهب الشهيد عبد الفضيل إلى لقاء ربه برفقة الدكتور الشهيد عبد الله ميرغني في رمضان 1406ه. كان عبد الله ميرغني قائد عملية المطار. وعندما تمّت السيطرة على مطار الخرطوم، كان جعفر نميري مختبئاً في السفارة الأمريكية. لماذا نسيت الإنقاذ شهداء الحركة الإسلامية؟ ولماذا نسيت الحركة الإسلامية شهداءها... دخل عبد الفضيل الحركة الإسلامية عن طريق عثمان عبد الله النصري (كلية الاقتصاد)، مثلما دخلها مصطفى عثمان اسماعيل وإبراهيم غندور والطاهر على الطاهر عن طريق سيد الزبير (كلية الاقتصاد)، ودخلها الطيب مصطفى عن طريق جعفر ميرغني (الدكتور)، ودخلها شيخ إبراهيم العباس شيخ القرآن في جزيرة توتي عن طريق الشهيد أبي الشهيد احمد محجوب حاج نور، مثلما دخلها نجم الإعلام حسن عبد الوهاب عن طريق الراحل العزيز شرف الدين جمعة، مثلما دخلها الأستاذ إبراهيم السنوسي عن طريق الشهيد د. التجاني أبو جديري، وكما دخلها د. حسن الترابي عن طريق الأستاذ عبد الله محمد أحمد، حسب إفادة الاخير في مقالات منشورة. المنسيّون... الشاعر الأديب حافظ جمعة سهل ومحمد عثمان عكاشة الذي تميز بخفّة الظل... أول ما رأيت حافظ جمعة سهل كان عام 1974م في مقهى النشاط بجامعة الخرطوم يلقي أشعاره... يا بنت النيل وبنت النور وبنت الورد. حافظ وعكاشة تمّ اعدامهما في تشاد، سمعت ذلك عام 1982م، حيث كان للحركة الإسلامية السودانية أدوار غير معلنة في تشاد. عندما تلتقي حافظ جمعة سهل لأوَّل مرة يُخيِّل إليك أنك تعرفه منذ زمان بعيد... طلاقة وبشاشة وتهلّلاً ومصافحة حميمة. المنسيّون الشهداء كانوا عام 1976م، في بدايات ومنتصف العشرينات من أعمارهم المباركة... عندما غادروا إلى خلودٍ بلا ضفاف... وقد جعلوا الموت رجاءً وبقاءً... الحديث عن المنسيّين ليس من باب المزايدة السياسية، أو ادِّعاء البطولات الحزبية، أو التّمسُّح برداء الأبطال، ولا من باب تلوين التاريخ بالهوى، إنما هو النذر اليسير ممَّا يأمر به الوفاء!.