زار الرئيس المصري محمد مرسي السودان أخيراً واستقبل استقبالاً طيباً يليق بمقامه الرفيع بوصفه رئيساً لدولة جارة تربطها بوطننا الغالي علاقات ضاربة في أعماق التاريخ، حيث أن ثورة يوليو عام 1952م امتد حكمها ما يقارب الستين عاماً إلا قليلاً، وتعاقب فيها على حكم مصر أربعة رؤساء ينتمون للمؤسسة العسكرية، وكانوا ضباطاً بالقوات المسلحة، وهم الرؤساء نجيب وعبد الناصر والسادات ومبارك. وفي عهد عبد الناصر كان القائد العام للقوات المسلحة هو المشير عبد الحكيم عامر، وتعاقب بعده على القيادة العامة آخرون. وحكم ناصر والسادات ومبارك بالزي المدني، واكتفى كل منهم طوال فترة حكمه بتولي موقع القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو موقع يتولاه في كل قطر رأس الدولة سواء أكان الحكم مدنياً أو عسكرياً أو خليطاً منهما، وسواء أكان نظام الحكم ملكياً أو جمهورياً أو برلمانياً. ورئيس جمهورية مصر الحالي محمد مرسي كان أستاذاً جامعياً للهندسة، وهو مدني، وبحكم موقعه بوصفه رأساً للدولة فهو القائد الأعلى للقوات المسلحة. إن الرئيس مرسي انتمى لتنظيم الإخوان المسلمين ونال عضويته بعد تخرجه في الجامعة قبل ما يقارب أربعة عقود من الزمان. وتاريخياً فإن الأستاذ بابكر كرار ومجموعته كانوا من أبكار الإسلاميين، وكانوا يعملون تحت اسم حركة التحرير الإسلامي، وعندما عقد مؤتمر أُقر فيه بالأغلبية بأن يحمل التنظيم اسم «الإخوان المسلمون» انشق عنهم كرار وجماعته وكونوا حزبهم الخاص بهم «الاشتراكي الاسلامي»، وفي عام 1965م زار الأستاذ الرشيد الطاهر بكر مرشد الإخوان المسلمين الأسبق مصر، وعند عودته أشاد بمصر وبالتجربة الناصرية، وقدم استقالته من تنظيم الإخوان المسلمين ومن جبهة الميثاق الإسلامي التي فاز باسمها في انتخابات الجمعية التأسيسية، وانضم للحزب الوطني الاتحادي «الاتحادي الديمقراطي فيما بعد»، وفي مؤتمر الإسلاميين الشهير الذي عقد في عام 1969م كاد يحدث انقسام، ولذلك اتفقوا على توحيد القيادة ليصبح أمين التنظيم هو الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامي، لئلا تحدث ازدواجية وثنائية في القيادة. وصرح دكتور حسن الترابي بعد أيام من انفضاض المؤتمر بأنه سيزور مصر على رأس وفد وسيلتقي بقيادة النظام الحاكم في مصر، في إشارة منه إلى أن تنظيمهم هنا يتمتع بقدر كبير من الاستقلالية ولا يتبع لغيره، واستمر الكيان هنا موحداً، وبعد المصالحة الوطنية حدث انشقاق، وبعد انتفاضة رجب أبريل 1985م ظل التنظيم قائماً، وقامت الجبهة الإسلامية القومية باعتبارها وعاءً جبهوياً أوسع استوعب كثيرين من خارج التنظيم، وبجانب ذلك كان ومازال يوجد تنظيم للإخوان المسلمين تعاقب عليه في دوراته العديدة ثلاثة أمراء، بالإضافة لتنظيمات أخرى تفرعت عنه، وما أوردته باختصار فيه إشارات عابرة لنوع العلاقة بين تنظيم الإخوان المسلمين في السودان ومصر. والملاحظ أن الرئيس محمد مرسي كان حذراً في كلماته وعباراته عندما تحدث في الخرطوم، وأراد أن يتعامل بوصفه رجل دولة، وخلت كلماته من أية إشارات تنظيمية تصريحاً أو تلميحاً ولو من قبيل الرباط العقدي والفكري، وأراد الرئيس مرسي أن يطمئن آخرين في الخارج إلى أن زيارته للسودان لا تعني أنه يريد إقامة تحالف ضد أحد. وبالطبع فإن نظام الرئيس مرسي يمر في هذه المرحلة بتحديات داخلية كثيرة مع سعيه لتوفيق أوضاعه إقليمياً ودولياً. ولعل الجانب السوداني قدر الظروف التي يمر بها النظام المصري، وحاول أن ييني معه جسراً للثقة مبدياً حسن النية في إقامة علاقات طيبة بين البلدين، وقدم مكرمة بمنحهم مساحة شاسعة واسعة في ولاية الخرطوم ليقيموا فيها منطقة صناعية مصرية، وتجنبوا الخوض في موضوع حلايب وشلاتين بتجميده أو بحديث بعضهم عن جعلها منطقة تكامل بين البلدين، وفور عودة الرئيس مرسي لمصر صرح الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية المصرية بأن الرئيس لم يتعهد لأحد بإعادة تلك المنطقة لوضعها السابق الذي كانت عليه قبل عام 1995م، وليته وقف عند هذا الحد ولكنه استطرد قائلاً إن حلايب وشلاتين مناطق مصرية والتفريط فيهما هو تفريط في السيادة المصرية، وهذا الموضوع بالنسبة لهم خط أحمر غير مسموح بتجاوزه. وتحدث الجنرال شفيق المرشح السابق لرئاسة الجمهورية بذات اللهجة مؤكداً مصرية حلايب وشلاتين، وهذا يؤكد أن الحكومة والمعارضة في مصر تتطابق رؤاهما هناك وقع الحافر على الحافر في هذه القضية. وأن الأوضاع والتحديات الداخلية والخارجية في كل من السودان ومصر لا تسمح في الوقت الراهن بأية مناكفات وصراعات واشتباكات بينهما، ومع ذلك ينبغي عدم دفن الرؤوس في الرمال، وترك المداراة والتأكد تماماً أن مصر على مستوى الحكومة والمعارضة قد أعلنت على الملأ أخيراً رأياً كانت تخفيه وتداريه، وهو أن حلايب مصرية وليست سودانية وليست منطقة تكامل!! ومهما يكن فإن العافية درجات. وكان الرئيس السابق مبارك يتعامل مع السودان أحياناً بطريقة فيها غطرسة، وفي التعددية الحزبية الثالثة كان يردد كثيراً أنه لن يفرط في أمن مصر من جهة الدولة التي تقع جنوبهم، وكأن السودان محافظة أو مقاطعة تابعة له، وكانت تسبق وتعقب أية زيارة يقوم بها ابو الغيط وزير الخارجية وعمر سليمان مدير الاستخبارات شائعة مفادها أنهما حضرا يحملان رسالة تحذيرية للسودان او شيء من هذا القبيل، وكان الجانب الأمني والاستخباراتي يطغى على ما عداه في التعامل مع السودان، وكان مبارك يشعر بألم ممض ويشعر بأن السودان قد خرج عن طوعه وأخذ ينفذ سياسات داخلية وخارجية لا تروق له كأنه وصي على السودان والسودانيين. ومن الواضح أنه لم يكن راضياً عن أية محاولة لتعلية خزان الروصيرص أو بناء أي سد على النيل مثل سد مروي، وتلك مرحلة نأمل أن يكون قد أسدل عليها الستار. ومن مصلحة البلدين الآن وفي المستقبل أن يتعاملا في ندية مع احترام كل بلد لخصوصية البلد الآخر، ومن مصلحتهما أن يتكاملا ويتعاونا في شتى المجالات على المستويين الرسمي والشعبي، ولو صفت النفوس فإنهما جديران بتوفير الأمن الغذائي لكل سكان دولتي وادي النيل، ولا بد أن تقوم العلاقات بينهما على أسس موضوعية لا عاطفية، وأن تقوم على الصراحة والشفافية بلا غموض وضبابية.