الأسبوع المنصرم كان قد أصابنا حزن ثقيل وفتق عميق بفقدنا لرمزين من رموز الإنسانية كنا ندخرهما للمستقبل وإلى يوم الكريهة، لكن الموت كان أسرع، فقد خطفتهما يد المنون وإنسلا من بيننا كما البرق الخاطف دونما كلمة وداع.. فقبل أن تجف مآقينا ونمسح دموعنا حزناً على فقيد الشباب الخلوق المهندس خالد عبد الله أبو سن رئيس اتحاد طلاب ولاية الخرطوم الذي ارتحل إثر مضاعفات حادث حركة أليم، فإذا بنا مع موعد جديد من الأحزان، فقد أضيف إلى مصائبنا مصاب جديد كان أكثر ألماً، فقد أفل نجم آخر كان يضيء سماواتنا، ذلكم هو الطبيب والصحافي الأديب الدكتور كمال حنفى الذي رحل خلسةً ولم يستأذن أحداً وقال كلمته «إلاقليلاً» وانصرف.. وحقاً كان هو أسبوع الفواجع، وفيه فقط أدركت أن الموت نقاد يخطف المميزين من بيننا.. وما أقساك أيها الأسبوع المنصرم، فلماذا لم ترأف بقلوبنا الكسيرة، وبكل قسوة تبعد عنا من نحبهم وتتركنا للدموع والنحيب، ونحن نراهم يطيرون إليك كالفراشات أصفياء السرائر والسيرة.. فالمصاب الذي استدر دموع الجميع ونهش قلوبنا يجعلنا لا نقول إلا ما يرضي الله ورسوله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. إن من أهم المؤثرات أنني كنت مع خالد أبو سن قبل وفاته بثلاثة أسابيع، ووقتها بعد أداء صلاة الجمعة بمسجد الشهيد جلسنا والإخوان الكرام عبد الماجد عبد الحميد وحاتم أبو سن ومحمد إدريس والأخ خالد أمام حدائق فندق كورال، وقد احتسينا كؤوس القهوة مع بعض، وتجاذبنا أطراف الحديث حول الهموم العامة والخاصة، وعندما مرت بنا طفلة صغيرة وهي تسوق التسالى والفول بين الحضور، أهتم «هو وعبد الماجد» بأمرها وانشغلا بها، فقد أجرى معها «أبو إياد» حواراً مباشراً حول عملها ومقابلة الناس لها والمضايقات التى تتعرض لها، وسبحان الله كان خالد يتابع باهتمام شديد، وكان الجميع مندهشين من الثقة التى تتمتع بها تلك الطفلة ذات الاثني عشر عاماً تقريباً، وقد ذكرت لهم حالة مماثلة لها، فوجدته قد سبقنا إليها بمنزل أسرتها وأدرك حاجتها وتبنوها فى الاتحاد بالرعاية الأكاديمية والاجتماعية، وكان يتحدث بعمق عن خطورة عمالة الأطفال وكيفية محاربة ذلك ودور الإعلام في التوعية بمخاطرها فى المستقبل، ولا بد من تحريك المؤسسات والمجتمع لتتحمل مسؤوليتها تجاه هؤلاء الأطفال.. وما كنت ساعتها أعلم أن الأحلام تسرع خطاها نحونا، وأن صديقنا خالد سيغادر ويخلف جرحاً أليماً ومسؤولية مضاعفة فى الوفاء له بما كان ينوي فعله من خير لهذه الأمة، وما كانت القدس التى أسمع فيها صوته للصهاينة تدرك أنه جاء لوداعها الأخير.. ما أقساها وأتعسها من لحظات.. تصوروا غزارة الدموع التى ذرفتها تلك الجموع التى خفت لحضور مأتم وتشييع «خالد أبو سن» رغم صغر سنه وحداثة تجربته فى الحياة، لكنه كان بالنسبة للجميع مشروع قائد يمثل فقده مصاباً فى قلوب الكل لا يندمل بسهولة، وسنظل نبكي خالداً كلما نظرنا لمصائب وخيبات وحال شبابنا من حولنا، لا سيما عندما نعقد المقارنة بينه وبين الكثيرين من جيلنا، لكننا لا نزكيه على الله، ولكننا نجفف دموعنا ونرجع لنقول ما خاب من أنجبك يا خالد أبو سن.. نم هنيئاً في مرقدك. وموجع جداً الرحيل والفقد المفاجئ لشخصيات ورموز مثل الدكتور والإنسان الخلوق كمال حنفي، فمازالت كلماته المهذبة تطرق أذني حينما اتصلت به عبر الهاتف أطلبه للمشاركة فى برنامج «خطوط عريضة» بالتلفزيون القومي، فقال بكل تهذيب: «يا رابح يعني إنتو حابين بكرة نعمل مع بعض.. أوكي مافي مانع».. كلمات فى غاية البساطة، فقد انكسر خاطري حينما اتصل بي الشاب الخلوق واثب الطيب قسم السيد وقال لى: «يا أستاذ فى خبر شايع وعاوزك تتأكد منو قالوا الدكتور كمال حنفى قد توفي.. فاتصلت مسرعاً بهاتفه فقابلنى شخص آخر من أسرته وشعرت بحزن مثل طعنه الخنجر، ولكنني تمالكت أعصابي حين رد المتحدث يا أستاذ البركة فينا وفيكم.. الدكتور قد توفي الآن، والدفن الساعة الرابعة عصراً بمقابر البكري بأم درمان.. خبر تسلل إلى نفسي كالصاعقة وحاولت الهروب عبثاً أن أراجع عبر ذاكرتي آخر مشاركاته وقفشاته معنا بعد نهاية الحلقة فنزلت دموعي وسبحت فى عوالم بلا قوارب.. لكننى رجعت وقلت كل نفس ذائقة الموت.. وربما كان حزني من فرط حبنا للأخ الراحل كمال حنفي، فهو مدرسة في الأخلاق والعفة والصدق ودقة العبارة.. فهو رجل يقف على مبدأ وقيم، واختار لحياته منهجاً أساسه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله فى تواضع وثقة لا تعرف التدليس ولا الانكسار والمجاملة.. وبرحيل الدكتور كمال حنفي فقدت الساحة طبيباً إنساناً وقلماً صحافياً صادقاً وصادحاً بالحق، وترك فراغاً لا يُسد، لكنه يظل نبراساً يضيء الطريق لمن بعده.. فإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، ولكن لا نقول إلا ما يرضي الله ورسوله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. وإنا لفراقك يا كمال لمحزونون.