أقسم صادقاً أنني سأكون قد كذبت عليكم لو قلت لكم إنني أعرف أو أستطيع أن أتكهن بما يدور في أذهان متخذي القرارات ساعة اتخاذهم لأي قرار. الأمثلة كثيرة لقرارات صدرت، وقرارات صدرت ثم أُلغيت، وقرارات أُلغيت ثم أُعيدت، ولا يقف خلفها أو يسندها أي منطق يمكن أن يستنبطه عاقل من كان. ومن ضمن تخصصي في علم الحيوان علم سلوك الحيوان الذي كنت أدرسه لطلاب علم النفس، وأستطيع أن أجزم أنني يمكن بقدر معقول من الاستنباط أن استنبط ما الذي تريد أن تفعله النملة أو الذبابة أو البعوضة أو حتى الفيل، غير أنني لا أستطيع أن أتكهن بما يمكن أن يقوم به ظل الفيل، وبالتالي ما يمكن أن يصدره أي مسؤول من قرارات. قبل سنوات صدر قرار بمنع تعاطي الشيشة في المطاعم والمقاهي، واستبشرنا بذلك خيراً، إذ أن الشيشة لم تكن في يوم من الأيام من ثقافة الكيف عندنا، وعددنا ذلك خطوة متقدمة في سبيل مكافحة التلوث. ولم يحتج غالبية الناس من ذلك الإجراء الصائب. ولكن في الأسبوع الماضي صدر قرار يبيح تعاطي الشيشة في المطاعم والمقاهي ما عدا الخمور. ولم يسبق ذلك القرار مناداة من أية جهة أو «كييفة» بالسماح بتعاطي الشيشة، بل صدر «كدا» ولا تثريب عليكم إن تعاطيتم الشيشة في المطاعم والمقاهي بدون خمور. المعروف أن صدور أي قرار يفيد بعض الناس وربما سبب ضرراً لآخرين. فمثلاً عندما تصدر وزارة التجارة أو الجمارك قراراً بمنع استيراد العربات المستعملة فإن عدداً من التجار الذين يعملون في هذا المجال يتضررون، بينما يستفيد عدد آخر يعمل في تجارة العربات الموجودة داخل السودان. ولكن المتضررين لا يستسلمون بسهولة لذلك القرار بل يكوِّنون مراكز ضغط وبواسطة بعض الواصلين يصدر قرار بالسماح باستيراد العربات المستعملة وهكذا «دواليبك». والحال كذلك، فإن قرار السماح بتعاطي الشيشة يجعلنا نخمن أن وراءه بعض الذين تضررت مصالحهم من القرار «الأولاني» بمنع الشيشة وربما يكونون من غير السودانيين «شوام أو أتراك مثلاً». أو أن منظري جلب الاستثمار قد أقنعوا متخذي القرار أن الاستثمار سينمو ويفرهد تحت دخان الشيشة في المطاعم والمقاهي و«أهو الشيشة زي السجاير وهي مش حرام». أو أن الناس قد اكتشفوا فجأة أن قرار منع تعاطي الشيشة كان خطأً كبيراً من أساسو. أو أن ذلك القرار اتخذ تمهيداً لاتخاذ قرار سيأتي بالسماح بإقامة الخيم الرمضانية، والخيم الرمضانية طبعاً بدون شيشة لا طعم لها. في السابق كانت المحليات تجعل أصحاب الخيم الرمضانية يدفعون «14» مليون جنيه «بالقديم» كرسوم تصديق، ثم تأتي إدارة أمن المجتمع لتفكيك تلك الخيم الرمضانية. ولا أدري على ماذا هم عازمون هذا العام. ولسوء حظ متخذي قرار السماح بتعاطي الشيشة في المطاعم والمقاهي أنه في نفس يوم صدور القرار نشرت هيئات بحثية في كلفورنيا بالولايات المتحدة أن تعاطي الشيشة لمدة ساعة واحدة يعادل تدخين «100 إلى 200» سيجارة. لا أحد يمكن أن يجادل في مضار التدخين أو أثر النكوتين على الكائنات. ففي دراسة أُجريت على العنكبوت وهي تبني بيتها بعد أن عرضت لمسكرات عديدة منها الكافايين والحشيش وعقار الهلوسة «إل إس دي» والمسكالين والكحول والنكوتين وجد أن العنكبوت تحت تأثير النكوتين الموجود في التبغ قد فقدت القدرة على بناء بيتها بالطريقة السليمة. إن بناء البيت بالنسبة للعنبكوت سلوك غريزي تنفذه العنبكوت حسب ما وضع الله سبحانه فيها من برامج وعملية بناء البيت عملية دقيقة معقدة... تبدأ العنبكوت بإخراج خيط رفيع من مؤخرتها بعد أن تعرف اتجاه الريح التي تحمل الخيط لتلصقه بأي غصن أو فرع من شجرة أو جدار... وبعد ذلك تثبت العنكبوت الجزء الذي عندها في ذات المكان.. ثم تستعمل نفس الخيط لتجذبه من منتصفه في شكل Y ... هذا الشكل مهم جداً لأنه يمثل السقالة التي تتسلق عليها لإكمال بقية الخيوط.. فتبداً بالخيط الأساسي الذي تتفرع منه الخيوط الفرعية في شكل دائري وبعضها في شكل مربع وتستمر على هذه الحال... وهذا يجعل البيت متماسكاً ثم أنه لا ينهار إذا اصطاد حشرة إذ أنه يتمدد ويمكن أن تقع عليه حشرة وتلتصق به وتأتي العنكبوت لتصطادها وتهب الرياح فيتحمل البيت كل ذلك... وبعد الانتهاء من تخطيط البيت تتدلي منه العنكبوت وتصل نفسها بخيط به وفي حالة اهتزاز ذلك الخيط تدرك العنكبوت أن الشرك قبض وأن حشرة وقعت في الفخ فتسرع نحوها... ومن غدة سامة في الصدر تفرز السم من خلال أنبوب يخترق جسم الحشرة.. السم الذي تفرغه داخل الحشرة إضافة إلى أنه يقتلها فإنه يذوب البروتين الموجود داخل الحشرة ... فتدخل العنكبوت أبنوباً آخر تمتص بواسطته ذلك البروتين... ولهذا نجد دائماً في المصائد التي تنصبها العنبكوتات حشرات كالذباب مثلاً ناشفة ومفرغة من الداخل... والعنكبوت«السكرانة» هي عنكبوت دفعتها الأبحاث إلى «السكر وعدم الفكر» وذلك لمعرفة تأثير بعض المواد المسكرة والمخدرة على قدرة العنكبوت على بناء بيتها.. ومن بينها كما أسلفت النكوتين. فوجد أنه مماثل لأثر «البنقو» على العنكبوت. فالعنكبوت تتنفس عن طريق الصناديق الرئوية والأنابيب القصيبية. وفي الجزء الأسفل من البطن توجد فتحات تقود إلى زوج أو زوجين من الصناديق الرئوية التى تحتوي على فراغات هوائية بداخلها أغشية ممتلئة بالدم.. وهنا يحدث تبادل الغازات أما في الناحية الأمامية من الصدر فهناك متنفسات تفتح على ما يشبه القصبات الهوائية... وهي بدورها تقوم بتبادل الغازات.. وفي حالات غمر الهواء حول العنكبوت بدخان الحشيش أو النكوتين فإن كل تلك الأجهزة تقوم باستنشاق غاز «السطلي».. وقد كان تأثير ذلك واضحاً في طريقة بناء البيت حيث تلاحظ أن العنكبوت تخلت عن الجزء الأسفل بكامله بينما ضيقت المساحة في الأعلى. وقللت عدد الخطوط التعامدية التي يقوم عليها البيت.. مع احتفاظ بالإفراز الغريزي للفبروين الذي تتكون منه الخيوط. فإذا كان ذلك تأثير النكوتين على كائن مثل العنكبوت يحتاج لتركيز ليبدع في بناء بيته، ترى أية فائدة من تلويث الهواء، وأية فائدة من إفساد هواء الأرض بعد إصلاحها بالقرار الأولاني؟ وما الذي فقدناه بمنع تدخين الشيشة في المطاعم والمقاهي؟ وهل سيسمح القرار الجديد للنساء بتعاطي الشيشة في المطاعم والمقاهي، وإذا كان لا يسمح كما كانت الحال سابقاً... لماذا لا يسمح؟ هل تعاطي النساء الشيشة في الأماكن العامة يعد نوعاً من التبرج وعدم «الخجلة»؟