هي محطَّة يتوقف عندها الكثيرون أثناء مسيرة حياتهم كمهنة تساعدهم في عبور بعض الأزمات ولكن سرعان ما يهجرونها بلا رجعة ويتناسَون أنهم عملوا بها في يوم من الأيام إلا القليلون الذين يصمدون في وجه التغيير الذي قد يصيبهم. إنها مهنة الجرسون التي تُعتبر مهنة الذين لا يملكون شهادات وغير المتعلمين ولكنها تطورت وأصبحت تدرَّس تدريسًا في الجامعات والمعاهد وتقام لها الدورات التدريبية ولها شروطها ومتطلبات يجب أن تتوفر في الذين يرغبون في العمل فيها حتى اعتبرها بعضهم فنًا من فنون الحياة والتعامل مع الناس. وكلمة «الجرسون» هي في الأصل كلمة فرنسية أطلقوها على الشخص الذي يقدِّم الأطعمة للزبائن والرواد ويساعدهم في اختيار الأطعمة بتقديم المشورة لهم وإسداء النصح لهم وهناك اختلاط في الفهم لدى الكثيرين بين الجرسون ومنظف الطاولات والطباخين فمهمة الجرسون تختصر في التقديم فقط ولكن هناك بعض المهام التي قد يقوم بها زيادة على مهنته مثل التنظيف ومساعدة الطباخ في إعداد الطعام وتقديمه ولكن في السودان ينظر إليها كنوع من المهن الهامشية التي يشعر من يشغلها بشيء من الخزي... «البيت الكبير» عكس الصوره كما تابعها... «خالد» الذي يعمل مع والده في مطعمه الصغير قال: أنا أكره عملي كجرسون، ولولا أن أبي أصبح لا يستطيع دفع أجر شخص يعمل معه لتركته وهاجرت إلى الخارج فهي مهنة لا مستقبل لها وأجرها ضعيف لشخص يعول أسرة. وعلى عكسه نجد أن «حازم» وبالرغم من حصوله على البكلاريوس في علم الاجتماع إلا أنه أحب مهنته كجرسون، وقال إنه فضلها على كثير من المهن الأخرى وإنها أتاحت له الفرصة للتعرف على أصناف الناس عن قرب وخلق الكثير من العلاقات الطيبة وتكوين صداقات فضلاً عن أن عائده المادي مجزٍ. تحدثت «خديجة» عن سبب اختيارها لهذه المهنة قائلة إن لقمة العيش والفقر السبب فهي لا تملك شهادات ولا مؤهلاً دراسيًا يخول لها العمل في شركة أو مؤسسة حكومية، وعن نظرة المجتمع قالت خديجة إنها لم تلاحظ أي نظرة استغراب أو استهجان من أي شخص أو من هذا القبيل، بل على العكس تجد الإعجاب والتشجيع فهي تكسب قوتها من عرق جبينها مما يجعلها راضية عن نفسها وراضية عن نصيبها متمنية الأفضل. وبنبرة حزينة قالت «فاطمة» هجرت قريتي وأتيت إلى العاصمة بعد أن ضاقت بهم الحياة ولم تجد عملاً غير الجرسونة فهي غير متعلمة وكذلك لا تجيد صنع شيء لصغر سنها، وقالت إنها تتعرض إلى الكثير من المضايقات قد تصل إلى حد التحرش ولكن الحاجة تجعلها تستحمل كل هذا وتغض الطرف عن الذين يقومون بذلك مضيفة المقولة الشهيرة «ما رماني على المُر إلا الأمرُّ منه». حسام القادم من الجزيرة قال إنها مهنة جيدة وفيها بعض المميزات التي قد لا تتوفر في الكثير من المهن ولكن اجتماعيًا غير محبذة، فكثيرون من زملائي لا يحبون الإفصاح عن العمل فيها فهي غير مشرفة اجتماعيًا وأنا أيضًا أخفيها لكي لا تقل مكانتي الاجتماعية، فالنظرة للجرسون نظرة دونية. أحمد يحيى قال إنه عمل «جرسون» حتى يكمل دراسته الجامعية فبعد أن ازدادت الأسعار أصبح مصروفه لايكفي ولأن هذه المهنة لا تحتاج إلى مؤهلات علمية وكذلك إلى خبرات وأنها من المهن المتوفرة في كل مكان ويمكن العمل بها والدراسة في نفس الوقت لأنها لا تحتاج إلى مجهود ذهني يؤثر سلبًا على التحصيل الأكاديمي. بعض المضايقات تحدث مصطفى عن بعض المضايقات التي تحدث أثناء عمله في مهنة الجرسون، فقال: هناك بعض المتعجرفين الذين يضايقون الناس وإن بعضهم يقومون بتصرفات وسلوكيات تحس من خلالها أنه يعمل على إذلالك أو إهانتك ونحن كجرسونات قد نغض الطرف عن الكثير من التصرفات ولكن لكل شخص حدودًا فقد تركت العمل في الكثير من المواقع بسبب شجارات مع بعض المتعجرفين. «محمد» قال: هناك من يقصد التقليل من الجرسون وهناك من يقلل من الجرسون دون أن يشعر، ولهذا هي مهنة تحتاج إلى إنسان صبور وبارد ومتفهم حتى يتحمل كل إنسان بعيوبه، وأنا شخصيًا تمر عليَّ كل يوم مواقف أشعر فيها أن الزبون يقوم بإهانتي أو التقليل من قيمتي، وأكثر هؤلاء من النساء والفتيات ونادرًا ما تحدث مواقف محرجة من شاب أو رجل، وكثيرًا ما يعتذر الرجل لي من فظاظة زوجته أو ابنته أثناء التحدث معي وخاصة إذا تأخرت في إحضار ما يطلبونه. أما «س» فقال إن أصحاب المطاعم والكفتريات يتعاملون مع الجرسونات على أنهم عبيد لهم مما جعل هذه المهنة طاردة وإذا لاحظت الآن تجد أن أكثر العاملين بها من الأجانب الذين يستحملون الإهانات والشتائم من رب العمل وهضم الكثير من حقوق الجرسون من ساعات العمل والأجر. تحرُّش كذلك الكثيرات من العاملات في هذه المهنة يشتكين من كثرة التحرشات التي تحدث لهنَّ يوميًا فقد قالت «س» إنها تتعرض للتحرش على مدار اليوم من المتحرشين بها، ففي اعتقاد الكثيرين أن أي فتاه تعمل في المطاعم والكفتريات سوف تكون سهلة المنال، فالكثيرون من الشباب والرجال يقومون بكل أنواع التحرش ولكن حفاظًا على عملي أتغاضى عنهم ففي قاموس أرباب العمل إرضاء الزبون يأتي أولاً «رانيا» قالت: عملت في جميع أنواع المطاعم والكفتريات، والقاسم المشترك هو التحرش، ففي البداية ظننت أن المحلات الراقية يكون فيها التعامل باحترام، ولكن وجدت أن الحال هو الحال، ولذلك الواحدة تغض الطرف تجنبًا للمشكلات وخوفًا من المشكلات سواء من أصحاب المحال أو الأسرة فإذا أحست الأسرة أن الأمر فيه خطورة يجبرون الواحدة على الجلوس في المنزل. أما «ه» فقالت إن التحرش يأتي من أرباب العمل أولاً فأمر الزبائن مقدور عليه فهو في نهاية الأمر سوف يغادر وربما لا يعود مرة أخرى إذا أحس أن الأمر سوف يتفاقم، ولكن عندما يكون المتحرش هو صاحب العمل فهنا لا بد من ترك العمل والبحث عن مكان آخر. هي مهنة تفرض عليك الابتسام وابتلاع الحسرة في نفس الوقت دون أن تُفصح عن ما يعتلج داخل صدرك من ثورات.