العالم كله يعج بالجائعين، والفقراء سدت أمامهم كل الطرق، ولم يتبق لهم إلا إمعاء الشارع الأكثر جوعاً ليخرجوا فيها، خاصة في بلاد الرفاهية واقتصاد السوق والرعاية الاجتماعية والوهم والحلم الذي يحسبه الظمآن ماءً. هذه هي صورة أمريكا ومدينة نيويورك، عاصمة المال في العالم، تجتاحها عاصفة الحركة الاحتجاجية «احتلوا وول ستريت» شارع المال والمضاربات والبنوك والشركات الأهم الأكبر في العالم. العالم يغلي من الغلاء، ارتفاع أسعار الغذاء وتضاؤل الأحلام، حالة تتمدد في الدنيا من أقصاها لأقصاها، فمن كان يعتقد أن شوارع منهاتن ومنطقة منهاتن السفلي، يمكن أن تكون صورةً متطابقةً ومتقاربةً مع أكثر مناطق العالم ضجراً وبؤساً وفقراً واحتجاجاً في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا، وكثير من بؤر الفقر والعوز والسأم في العالم الفقير. والأكثر غرابةً أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تنقسم على نفسها، وتتبارى الطبقة السياسية الأمريكية في مزايداتها، وتلعب على عواطف المواطنين المحتجين في نيويورك ولوس أنجلوس أكبر المدن الأمريكية وأكثر ضجةً بالحياة، فالسياسيون الأمريكيون في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، يتراقصون على حبال النفاق السياسي كالسناجب الصغيرة، ويتراشقون بالعبارات القاسية والاتهامات من داخل الكونغرس، بين مؤيدين لحركة «احتلوا وول ستريت» وحركة «حفل الشاي» التي ظهرت قبل سنوات وكلتاهما، تناديان بإيجاد مخرج من الضائقة الاقتصادية وتحسين الوضع المعيشي، وقد صارت الولاياتالمتحدة في مقدمة الدول التي تتزايد فيها نسبة الفقراء وتتكاثر مثل البكتريا أعداد المتشردين الذين لا مأوى لهم سوى الأرصفة والحدائق العامة مثل الشماسة عندنا هنا في السودان. الأسبوع الماضي بلغت الفزاعة السياسية أعلى مدارجها بين المرشح الجمهوري المحتمل في الانتخابات القادمة «هيرمان كين» ومعه زعيم الأغلبية في الكونغرس «أريك كاونتر» و«نيوت غينغريتش» وهما جمهوريان أيضاً، عندما احتدمت الملاسنات بينهم مع رئيسة الكونغرس نانسي بيلوسي التي تؤيد حركة «احتلوا وول ستريت». ووصفت كين بأنه مهطرق!! وأنه ومن يقود معه الحملة منافقون، وكان كين ومن يصوبون أنظارهم للبيت الأبيض في الانتخابات القادمة قد وصفوا المتظاهرين في شوارع منهاتن ولوس أنجلوس والعاصمة واشنطون، بأنهم غوغاء وحاقدون وحاسدون ومعادون للرأسمالية، ويريدون الاستيلاء على أموال الغير ومتلئون بالغيرة... وغيرها من مفردات القاموس السلطوي في بلدان العالم الثالث عندما تقف الحكومات باطشة بالمحتجين والساخطين والجائعين. هذا الحديث يقودنا، لشيء مهم للغاية، هو أن العالم تجتاحه اليوم حالة عامة ليست هي مجرد هياج شعبي ضد الفقر والقمع السياسي، إنما ضد الجشع والطمع والاحتكار وسيطرة المال ورجال الأعمال على الحياة بكاملها وتسخيرها لصالحهم، والصورة المكبرة لهذا النوع من الاستغلال والتسخير وسيطرة المال المطلقة على الحياة وسحقه للفقراء والفئات الضعيفة في المجتمعات، هي الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تعيش هذه الأيام ما كانت تراه عند الآخرين نشداناً للحرية وتعبيراً عنها. لقد انتبه عدد من المفكرين والخبراء في مجالات الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع السياسي، في الدول الغربية خلال السنوات العشرين الأخيرة، إلى خطورة ما ستؤول إليه الأوضاع الاقتصادية، الوطء بأرجل الرأسمالية الثقيلة، وخرجت دعوات عديدة لتخفيف حدة الغلاء والبطالة، وفتح فرص لقطاعات واسعة في المجتمعات للاستفادة من فرص المشاركة الاقتصادية، وتوسيع مظلات الضمان الاجتماعي، والحد من خطر الشركات العابرة للقارات وجشع كارتيلات السلع الأساسية والخدمات والنفط وغيرها، وتمت صياغة مبدأ شديد الدلالة سُمي «أنسنة الرأسمالية» بإضفاء مسحة إنسانية على وجه النظام الرأسمالي. ما يجري الآن في أمريكا وما سبقه في لندن قبل أسابيع، وما تشهده عواصم العالم الغربي من احتقانات، بسبب الغلاء والضوائق الاقتصادية.. هو آخر صورة زاهية عن عالم بدأ بالفعل في التحول، وشعوب تعيش مرحلة التيه، ولا بد من نهاية للعسف والظلم والاستغلال والجشع.