الحالة المتوترة والملغومة التي تعيشها مصر منذ ثورة يناير والتي ازدادت تأزماً وتعقيداً منذ أمس الأول عقب وقوع اشتباكات بين الأقباط والأجهزة النظامية هناك، تعكس واقع مصر اليوم في كل الأحوال، ولعل تلك الأجواء هي التي تكسب زيارة النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان إليها أهمية كبرى. وذلك أن مصر ما بعد الثورة تسعى لتمتين علاقاتها مع دول الجوار، بل تجاهد لتقوية علاقات مجتمعاتها الداخلية، وكل ذلك لا يتأتى إلا بمساعي التطوير والتفعيل للعلاقات. وفي هكذا طريق تسير علاقاتها مع السودان، خاصة أن طه قال عنها: إنها علاقات استراتيجية راسخة لا تقطعها ولا تؤثر فيها تقلبات الأحداث ولا تغيير الأنظمة ولا السحابات العابرة ولا المواقف الطارئة»، وذلك لدى زيارة رئيس الوزراء المصري عصام شرف للخرطوم في أبريل الماضي في أول زيارة خارجية عقب تسلمه مهامه، وهي في حد ذاتها كانت رسالة إلى الخرطوم أكدت اهتمام القاهرة بها، وبادلتها الخرطوم ذلك الشأن، والرئيس البشير أول رئيس في المنطقة يصل القاهرة عقب زوال نظام مبارك .. مباركاً للثورة.. ثم تواصل الاهتمام السوداني فكانت زيارة مساعد البشير د. نافع على ذات الطابع التنظيمي والحزبي، وكذلك الزيارة ذات الصبغة الدبلوماسية لوزير الخارجية علي كرتي، وتجيء الزيارة الرابعة لطه وهي تتجه نحو تقوية المصالح المشتركة والبحث عن الفرص التي تخدم البلدين، وهي زيارة تنتظرها مصر بفارغ الصبر، وفي بالها كلمات طه لشرف بالخرطوم التي تصب في اتجاه المزيد من التعاون في كل اتجاه، خاصة مجال الأمن الغذائي، حيث أن العمل كله الآن يشهد تطورات قوية في ارتفاع السلع الغذائية، وفي تأمين وتوفير الغذاء لشعوب العالم.. ومسألة الغذاء أمر مقلق جداً لمصر ومقلق للسودان، وكان علي قد أضاف في كلمته المذكورة آنفا التعاون في مجال القمح والسكر والحبوب الزيتية، وبالتالي زيارته معنية في المقام الأول بما يخدم مصلحة الشعبين، ويتضح ذلك من الوزراء المرافقين له وهم وزراء الزراعة، الصناعة، الثروة الحيوانية والسمكية، التعاون الدولي والخارجية، بجانب الإرشاد، والوزير برئاسة الجمهورية د. أمين حسن الذي يرتدي قبعتين الإولى كونه مسؤولاً بالقصر الرئاسي، والثانية وهى الأهم كونه مسؤولاً عن تنفيذ سلام دارفور، وهو أمر يهم مصر بكل حال. المهم فى زيارة طه التي تبدأ اليوم الثلاثاء وتستمر حتى بعد غد الخميس، أن السودان ينظر بإيجابية للتغيير الذي جرى في مصر نظرة إيجابية كما قال عثمان نفسه ذات مرة، ولن يكون الحال كذلك ما لم يتم تنفيذ اتفاقية الحريات الأربع .. «حرية التنقل والإقامة والعمل والتملك» التى تم الاتفاق عليها بين البلدين فى يناير 2004م، والتي لازمها التلكؤ الذي هو أقرب للتنصل من الجانب المصري لشيء فى نفس المخلوع مبارك !! ومع تغير الأوضاع فالأمر يتطلب إبداء حسن النوايا من جانب القاهرة، ويتطلب كذلك من مصر أن تنظر للخرطوم بخلاف الصورة التي ترسخت لدى سفير السودان الأسبق لديها الأمين عبد اللطيف، الذي قال في كتاب له وبشجاعة يحسد عليها «إن مصر لم تحاول فهم الشخصية السودانية، واكتفت بالصورة التي رسمتها ولم تغيرها مع الزمن.. فالسّودان بالنّسبة لمصر لم يعدُ تاريخياً إلّا كونه معبراً لنهر النيل، وبالتالي استمد أهميته لدوره الحيوي في مجال أمن مصر المائي، ولهذا لم يكتسب السودان أي بعد إنساني، أي لم يشكل السودانيون أية أهمية في المخيلة المصرية، لا رسمياً ولا شعبياً». وبالقطع آن أوان تغيير تلك النظرة إن لم تكن قد تغيرت، لجهة أن الأمين كان سفيراً هناك في العهد الحزبي البائد، وأن السنوات الأخيرة شهدت غزواً استثمارياً مصرياً للخرطوم فاق مقدراه خمسة مليارات دولار، كما أن طه «رامي قدام.. وورا مأمن» كما يقول العسكريون، صوب القاهرة التي عاشت مجزرة بينما يحمل إليها السودان مصلحة.