حكى لي كيف بدأت علاقته بالبحث والتاريخ قائلاً: (كنت وقتها في الثانوية ولاحظت كيف كان والدي والإمام عبد الرحمن يعتقدون أن هناك شيئًا غريبًا حدث في معركة (أبو طليح).. وبدأت من تلك النقطة وفي المدارس وحتى تخرجنا لا يوجد تاريخ سوداني يدرّس ولا أنسى أننا في المدرسة المتوسطة سألنا الأستاذ عما حدث في المهدية وكيف حدث؟ فما كان إلا أن شرع في قفل الأبواب والشبابيك وبدأ بصوت منخفض يحكي..). الأستاذ محمود أبو شامة المؤرخ الذي كتب (من أبا إلى تسلهاي) وأورد فيه حروب المهدية بتفاصيلها الدقيقة وذات الدقة التي ينتهجها في جميع أعماله ودراساته ويقول إنه ورثها من والده الشيخ أبو شامة الذي عمل في القضاء وتميَّز بالدقة والذكاء الشديدين وكان يستطيع أن يذكر أكثر من عشرين سابقة وقضية إذا لزم الأمر ومن رأسه وبتفاصيلها دون الرجوع إلى الأوراق.. بدأ أبو شامة بإذاعة أم درمان وبقي فيها قرابة الأربعة أشهر ثم غادرها إلى إنجلترا منذ 1956م، درس في إنجلترا وأكمل دراسته في هولندا وتخصص في العلوم السياسية والإعلام، ومن ثم إلى هولندا والإذاعة الهولندية والآن، هو في العقد الثامن من العمر ويتنقل بين هولنداوإنجلترا والسودان، ويواصل شغفه المقيم بالبحث في التاريخ بعد رحلة عملية زار فيها أكثر من 21 بلدًا من أقصى الأرض لأقصاها.. وكان مستشارًا للإعلام الهولندي في الشرق الأوسط مدة طويلة.. التقته: تيسير حسين النور تصوير: محمد الفاتح = (من أبا إلى تسلهاي) كتاب حوى تفاصيل وجاء بما لم يأتِ به الآخرون عندما تطرق إلى الأسلحة البيولوجية حدثنا عن التجربة والصعوبات؟ وجودي في مجال الإعلام ساعدني في تحري الدقة والأسلوب وإذا كان هناك من لديه شخصيتي ويريد أن يكتسب تجربة فستواجهه صعوبات كثيرة جدًا ومن الصعوبات الأساسية أن وثائق السودان محدودة.. مثلاً في (درم) هناك ملايين الوثائق وهي متاحة ولمن له خبرة في المجال يمكنه أن يكتب كما يريد منها، وإنجلترا مليئة بالوثائق وكذلك هولندا ومعلوماتي التي ذكرتها عن حصار الخرطوم أحضرتها من باريس. فعلى الكاتب أن يجري وراء المعلومات والوثائق ويتأكد منها وعند العمل أشعر كأني في (محكمة) إذا لم تكن أوراقك (100%) لن تكسب القضية، خاصة أن المطلعين عليها لديهم اتجاهاتهم الفكرية المختلفة.. وعندما أصدرت كتابي (من أبا إلى تسلهاي..) والإنجليز لو وجدوا فيه خطأً كانوا (ضربوه) وعندما وجدوا أن الوثائق مدعمة بوثائق إنجليزية كتبوا كتابًا جديدًا اسمه (حروب المهدية) وترجموه في واحدة من دول الخليج ونزل في السوق لكنه لم ينجح، حاولوا كتابة ذات الحروب وبرؤيتهم القديمة لكنها لم تنجح.. = = دقة أسلوبك مع التفاصيل توحي بروائي؟ في أي عمل اكتسب الأوربيون فيه دقة عجيبة بعكس تاريخهم الذي كتبوه وهذه مفهومة؛ لأنه كانت لديهم مشكلاتهم لكن أي حاجة كتبوها كانت بتمشي لدقة رهيبة حتى الإنجليز في السودان، ولا أنسى ملف أبي عندما كان مفتش محاكم قبل أن يصبح مفتيًا... تفاصيل بالدقيقة.. أخذت من والدي الدقة الشديدة فهو كان يمكنه أن يذكر 20 قضية دون أن يرجع للمستندات. = مَن مِن الإعلاميين تميَّز بالأسلوب أيضًا؟ من الإعلاميين المميَّزين جدًا ولو استمر في الكتابة لكتب الكثير (بشير محمد سعيد) لكن كتابه الذي كتبه كان عن الجنوب وما حدث فيه.. = فيمَ تبحث الآن؟ الآن عامل العمر (79) سنة، لدي أشياء كثيرة ممكن أكتبها ورغم أن القدرة ليست كالأول إلا أن الشغف بالبحث لا ينتهي.. = هل يعيد التاريخ نفسه تحدثت عن (الأسلحة البيولوجية في المهدية) هل يمكن أن نتعرض لمثل هذا اليوم؟ بالقطع وسيأتون بأشياء أخرى.. = وكذلك في الشخصيات وعظمتها كرجال المهدي؟ أن يؤتى بحكم إسلامي هذا حدث الآن، الحكومة جاءت لتنفذ حكمًا إسلاميًا في السودان وهي ذات فكرة الإمام المهدي لكن الإمام المهدي كان يحارب في دولة استعمارية ما عملته في السودان أبدًا لا يتصور؛ كان العسكري عندما يريد تجربة بندقيته وتنظيفها يجربها في المواطن! وأيضاً العنف في أخذ الضرائب، من لا يدفع يمكن أن تؤخذ بناته ويغتصبونهم.. الإمام المهدي لم يكن شخصية عادية، الوضوح غير عادي وشخصيته لا لؤم فيها، وأشك أن يأتي من بمثل ذكاء المهدي؛ القادة الذين اختارهم جميعهم عباقرة وهو لم يكن دارسًا لعلم النفس بل لديه الفكر ليختار. = أكثر ما أدهشك أثناء بحثك وراء تاريخ السودان؟ عظمة الإمام المهدي بداية، ثانيًا إنجازاتهم واكتساب خبرتهم مما قاموا به من أعمال، كما حدث في الأبيض، الهجوم على الأبيض كان خطأً وحصار الأبيض كان مظبوطًا. = هل تعتقد أننا إذا وعينا تاريخنا جيدًا لم نكن لنتخبّط أو نعاني؟ قطعاً.. لا أنسى أبدًا نميري، وقراراته التي كان يتخذها وكنت أراجع في التاريخ بعض الحالات خصوصاً في وزارة المالية فقد كان يعيد ذات الأشخاص الذين كانوا آباءهم في المهدية عينوهم في المالية، حدث ذات الشيء وتكرر التاريخ.. وهو ليس ببعيد، ولو قلت تاريخ الدولة المسيحية لا يستطيع أن يعيد نفسه بسهولة هذا ممكن وإلى حدٍ ما يكون صحيحًا لكن هذا تاريخ قريب ونفس الشخصيات وآبائهم.. = زملاء وأصدقاء؟ = من بقي منهم مولانا دفع الله الحاج يوسف وبرفيسور موسى عبد الله حامد تزاملنا في الدراسة، وأنا خرجت من السودان في 1956م.. درست في إنجلترا وأكملت في هولندا (علوم سياسية) و(دبلوم إعلام) وقد عملت في إذاعة أم درمان حتى ظهور نتيجة شهادة لندن وكانت الإذاعة وقتها بسيطة جدًا في بيت أعتقد أنه الآن مدرسة. = علاقتك بالطيب صالح؟ تزاملنا في الإذاعة البريطانية وهو رجل ذو أخلاق عالية ومتواضع وبسيط ومهذب جدًا وكان مزاجه الرئيسي الروايات والقصص بعكسي أنا لا أكره غير القصص ولم أقرأ قصة إلا في المدارس المتوسطة كنا نقرأ ماجدولين للمنفلوطي وفي إنجلترا قرأت قصة واحدة وقرأتها لسبب واحد أنها كانت ممنوعة.. = وصلاح أحمد إبراهيم؟ درسنا في المدرسة المتوسطة معًا وكان قبلنا بسنتين وعين سفيرًا للسودان في الجزائر ونميري طرده وذهب لباريس وعمل مترجمًا في سفارة قطر ومشكلتهم في عائلتهم مرض السكر وتوفي به، وهو شاعر (رهيب) وفي تأبينه ومرور عشر سنوات على رحيله قدمت البرنامج وتحدثت حديثًا طويلاً عنه وشخصيته، = بين الإذاعة الهولندية والإذاعة السودانية؟ في إعلامنا هناك مشكلة في المعلومة الأرشيفية عن يوم استقلال السودان وأعتقد أنه لم يتغطَ إعلاميًا بشكلٍ جيّد أن يوثقوا ب (حواء الطقطاقة) لا أعتقد أن هذا عمل إعلامي صحيح فهذا استقلال السودان وليس لعبًا.. هذا جهاد أجيال.. وفي يناير الفائت جاءت ذكرى تحرير الخرطوم 26 يناير استدعيت لأتحدث عنه وذهبت لإذاعة أم درمان ووجدت مباني رائعة جدًا وأجهزة ممتازة الباقي لا أستطيع التقرير فيه؛ لأنني لم ألاقِ إعلاميين يقنعوني بذلك وكل الأمر عند خروجي قدموا لي ورقة لأوقع عليها ليقدموا مبلغًا من المال وقلت لهم إني لا أريد نقودًا، والدقة التي قلت لهم بها ما حدث عند معركة تحرير الخرطوم أشك أنهم سيجدوها في أي مكان.. لكن لا أرى عملاً إعلاميًا بالمستوى المفروض تكون عليه إذاعة أم درمان لم يقابلني أي أحد كنت أتصوّر عندما يأتي إعلامي يدخل الإذاعة بعد 52 سنة أقل شيء يستقبل ويستعرض له ما تم خلال تلك السنوات.. = عظمة المهدية هي التي دفعتك لتنقب في التاريخ؟ عظمة المهدية هي التي ستشكل تاريخ السودان كله. = حاضر اليوم هل يمكن أن يكون تاريخًا يكتب وبذات الشغف؟ بحسب الأشياء.. أنتِ تريدين إخلاصًا ليس له أول ولا آخر، وشخصيات غير قابلة للنقد وأمينة وهذه لها أهمية كبيرة. هل تعرفين واحدًا من قادة المهدية الذين اختارهم الإمام المهدي كانت لديه تعرفة في جيبه. كذلك المهدي عندما أرسلوا له ستين ريالاً من الخرطوم وقالوا له هذا نصيبك، أرسل لأحمد ود سليمان جواب شكر وبخط يده قال له أشكرك نساء بيتنا لديهم فردة واحدة يتبادلونها، ولم يأكلوا لحمًا لهم ثلاثة أسابيع! تريدين شخصيات مثل تلك لا يقربها النقد.. = هل هذا يعني أن تاريخنا انتهى هنا؟ لا، ولكن بحاجة لأن يكون الناس أن يضعوا مفاهيم جديدة، ويبدأوا صح، المهدي الشخصية الوحيدة التي لم تعرف أن تنتمي إلى قبيلة؛ أمامه شيء واحد إيمانه وما يمكن أن يقدمه للمهدية وللسودان وطبعاً الاقتصاد وقتها كان محدودًا.. = إذا كان المهدي في يومنا هذا.. هل يستطيع أن يسير الأمور؟ وكما الساعة!! = وهل يمكن أن ينصلح الحال الآن؟ ممكن.. الأشياء يمكن أن تتبدل لكن التبديل أصعب من أن تخلق مفاهيم جديدة.. = كيف نخلق مفاهيم جديدة؟ عندما جاء الإنجليز وجدوا التعليم دينيًا فقط (الخلاوي) وأدخلوا التعليم الجديد الذي وقف الناس ضده في البداية لكن اكتشفوا أنه بالتعليم الجديد يمكن أن تتوسع فرص الرزق وأن يكتشفوا العالم حولهم أفضل.. بالجغرافيا والتاريخ وغيرها من العلوم. = من يقدِّم مفاهيم جديدة هنا؟ من في الحكم الآن يمكنهم ذلك بشرط أن تخرج أية رغبات إنسانية والرغبة الأساسية تظل للدين وللبلد ونسيان النفس صعب جداً!.