تمر دولة الجنوب الآن بمرحلة مخاض عسيرة إيذاناً بقيام أوضاع جديدة تفرزها الانتخابات أو بالأحرى المنافسات والمعارك الحامية الوطيس القادمة. وشهد السودان قيام المجلس الاستشاري لشمال السودان في عام 1944م وفي إطار سياسة المناطق المقفولة حُرم الجنوبيون من المشاركة فيه ولكن كان لعدد من ممثليهم وجود ومشاركة في الجمعية التشريعية. وكان لهم وجود وتمثيل مناسب من حيث العدد في كل البرلمانات المنتخبة أو المعينة بكل مسمياتها في مختلف العهود منذ عام «1954م» وحتى انفصال الجنوب. وهناك ثمة ملاحظة وهي أن عدد الناخبين كان ضئيلاً في الدوائر الجغرافية بالجنوب مقارنة بعدد الناخبين بالدوائر في الشمال. ووقفت من خلال الوثائق والأضابير على عدد أصوات الفائزين من النواب الجنوبيين في انتخابات عام 1968م ووجدت أن مجموع أصوات ما حصل عليه عشرة من النواب الفائزين يساوي عدد الأصوات التي حصل عليها نائب واحد بإحدى دوائر أم درمان، ولعل مرد قلة أصوات الناخبين هناك قلة الوعي وعدم الاكتراث من جانب المواطنين هناك إضافة لعدم استقرار الأوضاع الأمنية، ومن الطرائف أن أحد وزرائهم المرموقين لم يحالفه التوفيق في الانتخابات وحمل المسؤولية للجنة الانتخابات التي اختارت له على حد زعمه رمزاً انتخابياً تكرهه ولا تحبذه قبيلته. ورغم أن الجنوب ليس فيه أي عدد يُذكر من الشيوعيين وإن الشيوعية هناك لا وجود لها ويعتبر الجنوب بالنسبة لها مجازاً بأنه أرض سبنخ لا تصلح للنمو فيه إلا أن اثنين من الجنوبيين فازا في دوائر الخريجين أحدهما هو جوزيف قرنق الذي فاز في انتخابات عام 1965م وكان التصويت قومياً وقد فاز بأصوات الشماليين الشيوعيين والمتعاطفين والمتحالفين معهم وفاز جوزيف مديستو ممثلاً للحزب الشيوعي في الانتخابات التي أُجريت عام 1986م في إحدى الولايات الجنوبية لأن انتخابات الخريجين أُجريت في تلك الدورة على أساس ولائي. وأذكر من البرلمانيين الجنوبيين البارزين السيد بولين ألير والسيد بوث ديو صاحب الطرفة الشهيرة عندما سأله أحد النواب «ها البوث آخوي نعالي ما وقعت في عينك» فرد عليه مستنكراً ومندهشاً «كيف عين سغيرة دي تشيل نعال كبيرة» ومنهم السيد جوزيف قرنق والسيد وليم دينق والسيد أبيل ألير النائب البرلماني الذي فاز في انتخابات عام 1968م ممثلاً لجبهة الجنوب وكتب في صحيفة الرأي العام مقالاً بعنوان «السوداني القبيح» أفرغ فيه شحنات من الغضب فيها ترسبات نفسية وذكر أن في السودان استعلاء عرقيًا عنصريًا ولفت مقاله المثير الأنظار إليه. وتم تعيينه وزيراً في أول حكومة شكلها النظام المايوي الوليد في عام 1969م وواصل مسيرته مع النظام معتلياً أرفع المناصب الدستورية حتى انطواء صفحة ذلك العهد ونشر بعد ذلك كتابه «الشماليون ونقض العهود». وفاز في بعض دوائر الجنوب الجغرافية عدد من التجار الشماليين منهم على سبيل المثال السيد عمر الدرديري من الحزب الإتحادي الديمقراطي والسيد طيفور عبد الحكم الاتحادي المعروف الذي فاز في نفس تلك الانتخابات في عام 1968م بإحدى دوائر الجنوب ممثلاً لحزب الأمة جناح الصادق. وخلاصة القول إن الجنوبيين اشتركوا في البرلمانات المختلفة في إطار السودان الموحد وكان لهم مجلس تشريعي إقليمي بعد توقيع اتفاقية أديس أببا عام 1972م وأيضاً كان لهم مجلس تشريعي إقليمي بعد توقيع اتفاقية نيفاشا في عام 2005م. وفي أوائل الحكم الوطني شغلوا مواقع تنفيذية مثل تعيين وزير لمصلحة المخازن والمهمات وفي عهد عبود مثَّل الجنوب وزير للثروة الحيوانية هو السيد سانتينو دينق وفي مراحل لاحقة تولوا وزارات سيادية وخدمية مثل السيد كلمنت أمبورو وزير الداخلية في الحكومة الانتقالية التي أعقبت قيام ثورة أكتوبر وشغل الأستاذ بونا ملوال منصب وزير الثقافة والإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة في عهد مايو وتعاقب الدكتور لاما أكول ودينق ألور على منصب وزير الخارجية في الفترة الانتقالية التي أعقبت التوقيع على اتفاقية نيفاشا وشغل بعضهم موقع وزير شؤون مجلس الوزراء ... إلخ. وفي أيام السودنة كان عدد الموظفين الجنوبيين المؤهلين لشغل وظائف أرفع ضئيلاً ولذلك تم ترفيع بعض الجنوبيين وترقيتهم بطريقة استثنائية مع محاولة تأهيلهم بكورسات قصيرة في الإدارة بالمملكة المتحدة. إن موارد الجنوب المالية كانت شحيحة ولم يكن يرفد الخزينة العامة مالياً بشى يُذكر وظل لعقود طويلة من الزمان يعتمد على موارد الشمال حتى في الفصل الأول المتعلق بالمرتبات دعك من الفصول الأخرى وقد حرم الاستعمار الجنوب من الخدمات التعليمية والصحية والمشروعات التنموية ولكن الحكومات السودانية المتعاقبة بعد الاستقلال قدمت للجنوب الكثير ولكن المتمردين الجنوبيين كانوا يدمرون كل البنيات الأساسية التي تقام لهم من موارد الشمال. وفي عهد الاستعمار كان عدد المتعلمين ضئيلاً وعند انفصال الجنوب كان عدد المتعلمين الجنوبيين في شتى التخصصات كبيراً بدعم من موارد الشمال ومنهم عدد من البروفسيرات وحملة شهادة الدكتوراه... وأكبر هدية قدمها الشمال للجنوب هو استخراج البترول الجنوبي ولولاه لظل حتى الآن حبيساً في أعماق الأرض. وليس للخزينة العامة لدولة الجنوب مصدر آخر للعملات الحرة غير عائداتها من النفط. لقد كانت وما فتئت بين الجنوبيين خلافات عميقة ولكن الشيء الوحيد الذي كان يوحدهم هو مواجهتهم للشمال كخصم مشترك وبعد الانفصال وفي إطار تنظيمهم للبيت الجنوبي الداخلي أخذت المواجهات والثارات القديمة بينهم تطل وتوجد بين القبائل النيلية والقبائل الإستوائية صراعات تاريخية قديمة مع وجود صراعات بين القبائل النيلية نفسها بين الدينكا والنوير من جهة وبين الدينكا والشلك من جهة أخرى وإن قبيلة الدينكا تعتبر أكبر قبيلة في الجنوب والذي يجمع بين المنتمين إليها هو اللغة الواحدة والعادات والتقاليد المشتركة ولكن الواقع يؤكد أن قبيلة الدينكا لا تمثل كياناً واحداً ولكنها تمثل كيانات مختلفة قائمة على أساس مناطقي وجهوي وكل فرع قائم بذاته تماماً ويحوي كل فرع خشوم بيوت عديدة أي أن القبيلة الكبيرة تحوي داخلها مجموعة كيانات يسعى كل منها لإثبات ذاته والحفاظ على حقوقه ومكتسباته دون أن تغمطه الكيانات الأخرى حقاً من حقوقه. وإن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والولائية والمحلية القادمة في الجنوب والتي تتبعها بعد ظهور نتائجها محاصصة في تقسيم المناصب التنفيذية والوزارية على أساس قبلي سيفجر صراعات شرسة تؤدي لاضطرابات أمنية وانقسامات حادة داخل الجيش الشعبي للحركة الشعبية لأنها عبارة عن مليشيات قبلية. لقد احتفت أمريكا وإسرائيل والدول الغربية والأوربية بميلاد دولة الجنوب وكانت تضع عليها آمالاً عراضاً في إحداث تغيير لنظام الحكم في السودان وبسط مشروعهم المسمى السودان الجديد وقد باءت كل محاولاتهم بالفشل ولن تظل دولة الجنوب من بين أولويات تلك الدول المشار إليها لأن لهم قضايا وهموماً وأولويات أخرى غير الجنوب وقد أدركوا أن حساباتهم كانت خاطئة وأن إعاناتهم ومساعداتهم قد ذهبت هدراً بسبب الفساد وغيره وان البيت الجنوبي لم يتم تنظيمه وان دولة الجنوب ستكون على شفا الانهيار بسبب الوضع المالي المتدهور وربما تكون الانتخابات الشرسة القادمة هي القشة التي ستقصم ظهر دولة الجنوب. وقد أخطأ النظام الحاكم هناك وبدلاً من التفرغ التام لإرساء دعائم الدولة الجديدة الوليدة وتنظيم البيت الجنوبي من الداخل مع السعي لإرساء علاقات حسن جوار مع السودان يُفضي لتعاون مشترك وتبادل للمنافع والجنوب هو المحتاج للشمال أكثر من حاجة الشمال للجنوب وبدلاً من ذلك تفرغ الجنوب وبأوامر وتوجيهات من القوى الاستعمارية الأجنبية لاحتواء الجبهة الثورية التي تضم متمردي قطاع الشمال ومتمردي الحركات الدارفورية المتمردة لفرض ما يسمى مشروع السودان الجديد وتغيير الأوضاع في السودان وفق هواهم ولكن دولة الجنوب والجبهة الثورية وكل العملاء قد خيبوا آمال تلك القوى الاستعمارية ولم يحققوا لها مطلباً أو ينفذوا لها أمراً وستظل القضايا العالقة قائمة بين الشمال والجنوب ولن تكف تلك القوى الاستعمارية عن سعيها لإحداث الاضطرابات وعدم الاستقرار في السودان عن طريق عملائها وأجرائها ومخالب قططها. وفي ذات الوقت فإن السودان يجابه تحديات داخلية أمنية واقتصادية وتحرشات وضغوط أجنبية، وعلى ذكر الانتخابات في الجنوب فإن السودان سيخوض في عام 2015م انتخابات ساخنة لن تكون كسابقتها في عام 2010م وستطل مفاجآت كثيرة ومنافسات حادة وصراعات شرسة حتى داخل الحزب الحاكم في كل المستويات الانتخابية وكل ما يدور الآن حول الانتخابات من إرهاصات هو مجرد مراوغات ومناورات مع اختلاف الظاهر عن الباطن وستكون معركة ساخنة تتشارك فيها الجماهير والقواعد العريضة بحيوية وحرارة دافقة وبكل تأكيد أن الانتخابات القادمة ستقلب الموازين في الجنوب وفي الشمال على حد سواء.