ربما تكون الأخبار الواردة من ولاية شرق دارفور مساء أمس، بادرة خير في إنهاء النزاع بين قبيلتي الرزيقات والمعاليا بعد تفجُّر الأوضاع خلال اليومَين الماضيَين وسقوط قتلى وجرحى من الطرفَين بلغت أعدادهم المئات، فقد قام وفدٌ اتحادي يضم وزراء وقيادات عسكريَّة وأمنيَّة وشرطيَّة ووالي الولاية د. عبد الحميد موسى كاشا، بزيارة مدينة عديلة أكبر مدن المعاليا.. وتم اتِّخاذ تدابير أمنيَّة وإجراءات عاجلة لاحتواء الموقف المتوتِّر والمنزلق نحو هاوية المواجهة، وهذه الزيارة ربما تُشير إلى أنَّ الحكمة والتعقُّل إذا نهضا معاً يمكنهما لجْم جنون الحرب والصراع القَبَلي الطائش وحقن دماء الإخوة الأعداء بالسرعة المطلوبة. ويعود الخلاف بين الرزيقات والمعاليا إلى منتصف السنوات الستين من القرن الماضي، نتيجة لخلافات القبائل المعروفة في كثيرٍ من مناطق السودان، حول الأرض والحواكير ومصادر المياه والمراعي.. وتمَّت مواجهات وصدامات مسلَّحة بين الجانبين عام «1966م»، وتم صُلح شهير في تلك الفترة بعد تدخُّل الحكومة في الخرطوم... وتجدَّدت في العام «2003م» الخلافات والصراع في أحداث «التبت» المشهورة حول حدود المحليَّات وبين القبيلتين في مناطق أبي جابرة وتم حسم ذلك الخلاف بعد أن أوجدت تسوية للقضية بترسيم حدود المحليَّات والإداريَّات وإزالة بعض الحساسيَّات حول الإدارة الأهليَّة.. وبطبيعة الاحترابات القبليَّة في دارفور، فإنَّ النزاع بين الرزيقات والمعاليا، لا يختلف عن بقيَّة الصراعات التي دارت وتدور في المنطقة الآن في ولايات دارفور الخمس، وهذه الصراعات ترجع لأسباب عدة يمكن إجمالها في الآتي:- أولاً: مشكلة ملكيَّة الأرض وحواكير القبائل منذ قرون طويلة من أيام السلطنات القديمة مروراً بفترة الاستعمار، تمحورت حولها الخلافات والعصبيَّات وشكَّلت عائقاً أمام التعايش المُشترَك، فلا يحدث هدوء إلا وتشوبُه المحاذير الكثيرة من انفتاق الرتق واشتعال الخلافات واحتدام الصراع المسلَّح.. وترى كثيرٌ من القبائل الكبيرة أنَّها مالكة للأرض ومن تعايش وتساكن معهم يجب أن تكون تبعيَّته في النظام الأهلي للإدارة الكبيرة، وبرغم حدوث تحوُّلات في هذا الشأن ونشوء إدارات أهليَّة منفصلة وجديدة إلا أنَّ الشعور الجمعي لدى القبائل الكبيرة موجود في حالات كثيرة يضيق الحيِّز عن ذكرها ولحساسيتها أيضاً. ثانياً: الطمع والتنافس والطموح السياسي لأبناء القبائل المتصارعة وشهوة السلطة والمال والنفوذ، تُعدُّ من أهمّ أسباب الصراعات، فكل قبيلة بدأت تستشعر أهميَّة وجودها في مرآة الحكم وتتحسَّس قوة تأثيرها بما تجده من نصيب في قسمة السُّلطة وتوابعها... ونشأت خلال فترة الإنقاذ بعد قيام الحكم الاتحادي والمحلي طبقة من السياسيين المحترفين وطلاب السُّلطة في كلِّ هذه القبائل، لا همّ لها إلا توظيف القبيلة والعشيرة للصعود في الدرج والسلم السياسي واكتساب البريق المتوهِّج الذي تهبه بؤر السلطان.. ثالثاً: منذ أن عمدت الحكومة إلى إطلاق يد الولاة في إنشاء المحليَّات بالمعيار القبلي ثم الولايات على ذات الأساس واعتماد الترضيات السياسيَّة والتوازنات القبليَّة، لم يعُد هناك من كابح أو ضابط للنزق السُّلطوي والرغبة المتوحشة لأيِّ قبيلة وخاصةً أبناءها المتعلمين والسياسيين في امتطاء حَمِيَّة القبيلة لتحقيق طموحات ذاتيَّة لا صلة لها بالمجتمع المحلي والتنمية والخدمات والتماسُك الأهلي. رابعًا: لعبت الحركات المتمرِّدة التي استقطبت عدداً من أبناء القبائل دوراً بارزاً في تأجيج الفتن وصبّ الزيت على نار الخلافات، ولا يُستبعد أن تكون هناك أيادٍ أخرى من خارج البلاد تعبث في الأوضاع التي تغلي في دارفور. خامساً: ضعف سلطان الدولة ومؤسساتها وتسخير كثيرٍ من الولاة السُّلطة لأهاليهم ومحسوبيهم، جعل كلَّ الجهات والتكوينات القَبَلِيَّة تبحث عن ولاء وانتماء آخر، بل وأُسلوب آخر لحماية وجودها وكيانها على طريقتها الخاصة، وهو اتجاه مدمِّر لم تنتبه له الحكومة الاتحاديَّة في الخرطوم وتركت الحبل على غاربه للولاة ليفعلوا ما يريدون حتى أوردوا دارفور مورد الهلاك..