لم تعد تلك العصا التي يتوكأ عليها بكلتا يديه وعلى الرغم من سماكتها لم تعد قادرة على تحمل ثقل كهولته وقبلها لم يتحمله أبناؤه وذووه فتركوه على قارعة الطريق يرتمي على تلك العصا وكأنه يحمِّلها تبعات ما حمله فوق ظهره في سني الشباب، فقد فقد المأوى والمعين لحظة ان تسرب الى عظمة الوهن ودبّت الشيخوخة تعمل فعلها في الجسد الذي كان في سنين خلت يضج نشاطًا وحيوية... لم يكن الحاج ابكر الذي يناهز الثمانين من العمر حالة استثنائية فغيره كثر في ظاهرة متزايدة لم نكن نتوقع وجودها في المجتمع السوداني ونستبعد تمامًا حدوثها في الشارع الكسلاوي الا ان سخرية القدر تجعلنا شهودًا لواقع لم نعتقد بوجوده سوى في الروايات والدراما التركية. عقب صلاة المغرب بمسجد العم السر خيرات بوسط مدينة كسلا قام الحاج يتلمس طريقه بتلك العصا وببعض ايدي المارة الذين لا يزال في قلوبهم بقايا رحمة وشفقة فاأعانوه على الخروج من بين المصلين واخذوا بيده مجتازين به الشارع الاسفلتي الى الاتجاه المقابل وحينما سألناه عن وجهته علنا نصيب شيئًا من الأجر صعقنا الجواب حين اجابنا الشيخ الثمانيني بانه لا وجهة له فلم يعد الابناء راغبين في بقائه ولا يرغبون في بقاء كهل في المنزل.. استوقفتنا الاجابة واثارت كوامن المشاعر الانسانية وبعض الفضول المهني فينا واردفنا بسؤال آخر هل لديك ابناء وهل هم مقيمون بكسلا فقال نعم فلان... وفلان... وفلان اسماء يعرفها الكثيرون من سكان الضفة الغربيةبكسلا كيف ذلك يكون في كسلا؟!! لم يكن منا سوى السعي لإيصاله لدار العجزة والمسنين بكسلا التي احسنت استقباله وامنت له المأوى والرعاية ريثما يتم الاتصال بذوية وفق شروط الدار... كل هذا يحدث والعالم بأسره يحتفل باليوم العالمي للمسنين وقبل ذلك يأتي الامر الرباني «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا» مما دفعنا للوقوف على اوضاع هذه الشريحة وتسليط الضوء على الجهات المشرفة عليهم دعمًا لقضايا العجزة والمسنين فعلمنا ان دار العجزة والمسنين والتي تم تأسيسها في عام ال 1960م في احدى املاك السادة المراغنة بكسلا فقد كانت تلك الدار «تكية» السيد كما هو معروف بين مواطني كسلا وهي الدار الوحيدة بالولاية وتتبع جغرافيا لمحلية كسلا واداريًا لادارة الرعاية الاجتماعية وتبلغ الطاقة الاستيعابية لها حوالى25 نزيلاً وبها حاليًا ستة عشر نزيلاً ويقوم على تمويلها ودعمها بجانب ادارة الرعاية الاجتماعية ديوان الزكاة والخيرون من ابناء الولاية بالداخل والخارج، واكدت الاستاذة انتصار أحمد عبد الحليم مديرة دار العجزة والمسنين بكسلا ان الدار تعمل على رعاية وحفظ المسنين والعجزة الذين لا عائل لهم او من انقطعت صلته بأهله وذويه، وقالت ان الدار شهدت خلال الفترة الماضية اقبالاً متزايدًا وارجعت الامر الى جملة من الاسباب ابرزها الظروف الاقتصادية والامنية والتفكك الاسري بجانب الهجرات من الخارج والنزوح فضلاً عن البعد عن القيم الإسلامية وتعاليم الدين التي توجب الإحسان والرحمة للآباء وان طغوا وتجبروا واضافت الأستاذة انتصار ان الدار تقوم بتوفير الرعاية الصحية المتكاملة للنزلاء وتوفر لهم التغذية والرعاية الاجتماعية وتعمل على ادماجهم في المجتمع او ارجاعهم الى ذويهم ولم شملهم، وتطرقت الى بروز ظاهرة تخلي بعض الاسر عن المسنين فلم تعد تلك الاسر تطيق بقاء مسن في البيت فتعمل على ابعادهم بأنواع من الممارسة القاسية. واوضحت أن الدار وعلى الرغم من انها الدار الوحيدة بالولاية الا انه لايوجد بها قسم خاص للنساء وناشدت حكومة الولاية والخيرين مضاعفة الاهتمام بالدار وتقديم الدعم والعون لهذه الشريحة الضعيفة التي تحتاج للمزيد من الرعاية والاهتمام. اذًا فهو امر واقع وظاهرة تطرق ابواب المجتمع السوداني بشدة ولم تعد فصول في روايات من نسج الخيال ولا حلقات في مسلسل درامي جيد الحبكة فتتطلب تضافر الجهود للتعامل معها ليس من باب الاحتفال باليوم العالمي للمسن بل انطلاقًا من تعاليم ديننا الإسلامي السمحاء ونخفض لهم جناح الذل من الرحمة ونعمل حكومة وخيرين وكافة شرائح المجتمع للتعاون لتأمين حياة كريمة للمسنين.