قبل حوالى العام، أخطرتني إدارة مكتبي، أنَّ مدير المراجعة بالوزارة ونائبه كانا في انتظاري بالمكتب وغادرا، مع وعدٍ منهما بالعودة آخر النهار... حاولت الاتصال بكليهما ولكني لم أُوفق ولم يكن أمامي إلا الانتظار لحين عودتهما وفي الانتظار النار النار ياعيني الليلة.. طلبت كوباً من الماء، وبدأت في طرح الاسئلة على نفسي؟!!!! يا ترى هل يريدانني لأمر مضى أم لأمر فيه تجديد !!! أي مال أخفقت في إدارته وجاءوا ليراجعاني فيه؟؟ نظرت إلى الكوب الفارغ أمامي، وأكاد أجزم بأنني لم أفرغ ماءه في جوفي.. لاطفني هواءٌ بارد، وأنا أسترجع المقولة الذهبية: تأكد من أنك لم تُدخل مالاً عاماً في جيبك، أو تأخذه معك لبيتك، ولا تخشى بعد ذلك من شيء... هدأت أعصابي، وبدأت في كتابة خطة إعلامية سبق طلبها مني لتزامل إحدى الخطط الاحترازية الجنائية... وقبل أن أمضي فيها بعيداً، وجدتهما أمامي وأكفهما مرفوعة لطلب الرحمة وقراءة الفاتحة معي، على روح شقيقتي المتوفاة حيث إنهما لم يتمكَّنا من حضور المأتم، لأسباب تتعلق بعلمهما المتأخر بالوفاة... قضيا معي نحواً من نصف ساعة، ومضيا بعد أن أودعا «ظرفاً» في راحة يدي. ضعيف في محتواه، وكبير جداً في معناه. إنهما الوحيدان في هذه القوة الحارسة الأمينة، اللذان لا ترغب في استدعائهم لك، أو حضورهم لديك، ولا ترغب في الوقت نفسه في مغادرة مجلس يضمك بهما مصادفة، أو عن قصد، لطلاوه حديثهما، ونقاوة صدورهما، وحبهما لأن يرفل كل الناس بالسعادة والخير العميم... إنهما الأخوان العزيزان الفاضلان اللواء علي نمر واللواء محمد عبد الرحيم جمعتهما الزمالة السابقة في الديوان القومي، وحب الشرطة التي انتقلا للعمل فيها وقد أمتلئا خبرة وحكمة، الأول امتلك بيتاً هو حصاد سنيه في خطة إسكان الخرطوم لم تطأه أقدام أبنائه، حيث ظل قابعاً هناك مع أسرته في مضارب بني نمر بأمبدة، وهي مساكن أشبه بقطار نيالا في أيامه الزاهيات، وقد فُصلت عيره في تقاطع عرديبة... وأذكر أننا ذهبنا إلى تلك المضارب لتقديم العزاء في وفاة والدته، وقلنا له يومها أما كان الأجدر بهم تحسين وتجميل هذه البيئة السكنية قبل أن يأتيهم مثل هذا الكرب الذي ستأتيهم فيه وفود راقية من كل حدب وصوب!! وأذكر أيضاً أننا التقينا في ذلك اليوم بعض الزملاء ممن حضروا «الدافنة» وجاءوا ووجوههم تلعن «قفاهم» وقالوا: إن المقابر في منطقة صحروايه جبلية شمال غرب سوق ليبيا ولكنها أبعد من ليبيا ذات نفسها!!! الثاني طالته يد الإحالة قبل سنوات... رضي بالمقسوم، وأخذ مستحقاته وأنفقها جميعاً في بناء منزل لأسرته الصغيرة في ضاحية الكلاكله بمحلية جبل الأولياء... واتجه للعمل بالمراجعة التجارية، في سوق «الله أكبر» رغم المحاولات التي بذلتها إدارته الأم، في إعادة قيده التي فضل عليها الاعتزال ولم يمضِ وقت طويل، حتى تمت إعادته لعمله، الذي واصل فيه بكل تفان وإخلاص استحق عليهما أرفع الأوسمة، والتي قلده أحدها رئيس الجمهورية، في احتفال مهيب، مع إخوته رفقاء ثورة الإسكان الشرطي.... انتقل قبل عامين لسكن جديد، بضاحية أبو سعد وضع فيه حصاد سنيه، وقيمة المنزل القديم وأصبح يفتخر بأنه يمتلك منزلين أحدهما في العاصمة والآخر في قريته الحانية هناك في الشمالية، حتى جاء اليوم الذي زرنا فيه قريتهم، في طريق عودتنا من مأمورية تفتيشية بمدينة دنقلا... فإذا ببيته المزعوم، خرابة متهاوية، اتخذها الأهالي مربطاً للحمير!!! وأذكر أننا سألناه ذات صباح عن حضوره الباكر لعمله، رغماً عن بُعد المسافة، وعوائق الطريق، فقال: إن ابنته الكبرى التي هي هبة من المولى عزوجل، السبب في ذلك، إذ إنها تقوم مع أول خيوط الفجر ليجد كل من في المنزل شايهم وإفطارهم جاهزاً عقب تأديه الصلاة في وقتها، وتمنينا جميعاً أن يُنعم الله علينا بمثل ابنته هذه خاصة أنا الذي أنعم الله عليَّ ببنت في هذا العمر «إمطمطها» كل صباح عشرين مرة وتتهاوى ساقطة على السرير، وهي تقول «يا أبوى انت مالك حاسد كدا» تمنينا ابنته والتي اكتشفنا أخيراً، انها ابنة شقيقه المتوفى عليه رحمة الله. رجلان من زمن ماشي، وزمن جايي، وزمن لسه. رأيت أحدهم، يوزع الماء البارد بنفسه على العائدين من المقابر في وفاة زميلهم العقيد المرحوم الذقندى، بينما غادر الثاني بعربته لإحضار المسلتزمات العاجلة لسرداق العزاء، رافقتهم وزاملتهم في كثير من اللجان التفتيشية، بالعاصمة والولايات، ورأيت كيف يكون التقويم، والتعديل وتصحيح المسار دون إيذاء أو تعالٍ يقفلون حسابات، ويفتحون أخرى، ويُنشئون دفاتر مالية غير موجودة أصلاً ويضعون نظاماً دقيقاً للعمل في الوحدة المفتشة، ثم يشيرون لكل ذلك في التقرير النهائي بكلمات مقتضبات مفادها، وجود خلل غير مؤثر في النظام المالي تم تقويمه، ولهذا كله كانت هذه الإدارة تاجاً في رأس الشرطة، تجد الإشادة السنوية من الديوان ووزارة المالية، ولم يكن هذا إلا نتاجاً فريداً لوجود المراجعة، كمرحلة اصيلة في الدورة المستندية المالية للشرطة. وعن المراجعة الداخلية ومفتشيها يُحكى أن مفتشًا فجائياً، صعد على ظهر مشترك كريمة، لمراجعة التذاكر والتصاريح مع الكمساري، وتدخل لحل مشكلة نشبت بين الكمساري وراكب رباطابي أصر على أخذ باقي نقوده من الكمساري الذي طلب منه الانتظار لحين عودته مع «الفكة»... قال مفتش المراجعة للراكب «الزول دا أمين ومضمون» وجاءه الرد سريعاً وماكراً وصاعقاً «وكت هو مضمون انتا مباريهو مالك»!!