ربما كان عرمان أفضل حظاً من براقش.. فهو لا يزال حياً يتنفس.. ولكن الذي لا شك فيه هو أن براقش أفضل من عرمان بكثير.. فبراقش ماتت ولقيت حتفها وهي تؤدي واجبها الوظيفي الفطري الذي خُلقت له.. وهو واجب الحراسة اعترافاً بفضل المنعم الذي تعيش في كنفه.. وتطعم من خبزه. ولكن عرمان وبالرغم من أنه نجا حتى هذه اللحظة إلا أنه كاد يلحق ببراقش في الهالكين.. ولعل الله قد استبقاه لدور جديد يقوم به هو أكثر خزياً مما قام به في دعم التمرد ودعم العلمانية وتسديد الطعنات في ظهر الآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات. إن أول مظاهر هذا الدور الجديد هو أن عرمان لا يزال يعض بنان الندم ويذرف الدمع الهتون ويبكي ويستبكي ويظل يبحث عن كتف يضع عليه خده ليبكي ويتنهد «وينخج» كما يقول أهلنا في الأرياف، ولكن عرمان لا يجد إلا كتف اليانكي القذر والذي يتقاضى على وضع الخد على كتفه القذر ولو لمرة واحدة كل عمل خير قدمه الإنسان في عمره كله، ويبدو والله أعلم أن عرمان قد سقط سقطة أخرى قبل أن يقوم من سقطته الأولى.. وتصوروا بالله عليكم شخصاً يسقط وهو أصلاً في حالة سقوط ولكن يبدو أن هذه السقطة الثانية قد حولته من حالة براقش إلى حالة ظلوط. مع ملاحظة أن براقش كلبة.. وأن ظلوط ديك.. وعرمان الآن يحلم على حبل طويل ممدود اسمه السودان الجديد أو اسمه التمرد أو الحركة الشعبية لتحرير السودان.. أو أسمه اليانكي القذر. ولعل عرمان على حبله هذا يحلم بإعادة السودان إلى الوحدة والعلمانية في برنامج واحد.. ولعله يحلم بالكونفدرالية بين الشمال والجنوب وبلاد أخرى مجاورة.. ولعل عرمان اليوم يحلم بالتعايش بين أبناء الشمال والجنوب.. ويحلم بمساهمة الشمال في بناء دولة الجنوب الجديد!! إن عرمان اليوم أصبح يعيش بين التنهدات والمراثي: فمن التنهدات التي جاءت في بيانه: «واقع اليوم وذكريات الأمس» ومن المراثي: «الاحتفاء بالتعايش الديني الذي تم بين الشماليين والجنوبيين أثناء سنوات الحرب في كل قرى ومدن شمال السودان» ومنها أيضاً قوله ورجاؤه أن نحتفي بالخرطوم أكبر عاصمة إفريقية وعربية ضمت الشماليين والجنوبيين ولم تنته إلى ما حدث في رواندا. إن ضمير عرمان المثقل بدماء الشهداء لم يسعفه على التصريح بتشهيه الحقيقي وهو وحدة الشمال والجنوب مرة أخرى. إن محاولات تسجيل الحركة الشعبية لتحرير السودان حزباً شمالياً جنوبياً في وقت هي المؤشر القاطع بأن أحلام العلمانية والديمقراطية والمواطنة والتعددية ما زالت تدغدغ مشاعر وأحلام صعاليك الفكر والقيم «الصعلوك في اللغة هو المفلس والمعدم» في الحركة الشعبية وفي أحزاب الشمال العلمانية واليسارية والعنصرية. إن مجرد التفكير في تسجيل حزب باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان في الشمال إنما يدل على العبثية وعلى عدم النضج السياسي وعلى عدم الواقعية وعلى الجهل بأبسط مكونات العقل السوداني.. وعلى الجهل بالدستور الذي على أساسه قامت نيفاشا وعلى أساسه سقطت نيفاشا وعلى أساسه قام سودان الإسلام الجديد لا سودان العلمانية الذي أسقطته نيفاشا وألقت به في سلة المهملات. إن المرفوض الآن في كل الساحة السياسية ليس هو فقط إعادة تسجيل الحركة الشعبية.. في الشمال كحزب سياسي إن مجرد الاسم لا يمكن أن يقبل به عاقل لا قبل الانفصال ولا بعده. إن محاولات تسجيل الحركة الشعبية في الشمال تصدى لها رجال لا يمكن أن يُتهموا بالتحايل على الحركة الشعبية ولا بمحاباة المؤتمر الوطني.. ولا محاباة الحركة الإسلامية ولا محاباة التيار السلفي. إن إعادة تسجيل الحركة الشعبية في الشمال أمرٌ يرفضه الطبع والذوق والحس السليم.. ويرفضه القانون والدستور وإذا أصرت الحركة الشعبية بعرمانها وعقارها على المضي في هذا الطريق ووجدت من يداهنها من أهل الحكم أو أهل القانون.. فإني أخشى أن يثير ذلك حفائظ قوم يؤمنون بقلوبهم لا بعقولهم.. يؤمنون إيماناً كإيمان العجائز يقدمون الطاعة على الفهم ويقدمون الاتباع على الاجتهاد.. يتقربون إلى الله بنياتهم بأكثر مما يتقربون إليه بأعمالهم وعباداتهم. إن المطالبة بعودة الحركة الشعبية على أساس العلمانية أو بدون أساس إنما هو ضرب من السفه والخبل الذي لا يقره شرع ولا دين ولا قانون ولا دستور ولا مروءة.. لقد كانت المناصرة لموضوع الوحدة من قبل ضرباً من ضروب تغليب العاطفة على العقل والحرص على المألوف.. أما الآن فبعد أن تكشفت حقائق الحركة أو بالأحرى أباطيل الحركة فأصبح كل من عنده ذرة من العقل من أهل السودان زاهداً في الوحدة عالماً بأن المقصود ليس هو الوحدة وإنما جعلت الوحدة اسماً حركياً للعلمانية ومحاولات السيطرة وتنفيث الأحقاد التي زرعتها الآلة الصهيونية والآلة الأمبريالية الاستعمارية وأصبحت الحرب ضد المندوكورو والجلابة حرباً أكثر قداسة من حرب الصليب بل هي حرب الصليب في ثياب عصرية. لذلك فإن الوجدان المسلم المثقل بالأحزان والأتراح والذي يختزن الآلام ويجترها كل حين وعند ذكرى الشهداء الأبرار الذين رووا بدمائهم الطاهرة أرض الشمال والجنوب. إن كل ذلك أمر يفهمه الوجدان البشري الفطري الطبيعي ولكن الذي لا يفهمه ولا يستسيغه هذا الوجدان هو كيف يصوت الجنوبي للانفصال.. بل يتمرد ويقاتل في سبيله ثم يناله ولا يفرح به بل يطالب بالبقاء مواطناً من الدرجة العاشرة في الشمال يعمل في العمارات وفي البيوت وفي المهن الهامشية وفي برندات السوق العربي والسوق الإفرنجي. بل ليؤسس عصابات النيقرز التي تعيش على النهب والسلب. إن التعايش السلمي بين الشمال والجنوب ليس له إلا طريق الانفصال.. إن التفكير في الوحدة هو دعوة صريحة إلى الاحتراب والاقتتال.. إن تسجيل الحركة الشعبية والدعوة إلى الوحدة من جديد لا تزيد على كونها أحلام ظلوط.. وعلى نفسها جنت براقش.