بينت في الحلقة الماضية في سياق التعقيب على ما أورده الكتاب في ادعاء أن «اللوذ» الوارد في قول البوصيري «مالي من ألوذ به سواك» أنه في الآخرة فقط، بينت أنه تأويل ضعيف بالاستدلال ببعض أبيات البردة الأخرى وبيان أنواع أخرى من الغلو فيها، كما وضحت في التعقيب على دعوى الكاتب علم الغيب وعلم اللوح المحفوظ للنبي عليه الصلاة والسلام بينت أن المتصوفة يثبتون علم الغيب لشيوخهم وبعض الشيوخ يثبته لنفسه فنسبة المتصوفة علم الغيب لشيوخهم هو من المتواتر المبثوث في المنظوم والمنثور في قصائدهم وقد أوردت بعض أبيات ديوان رياض الجنة في ذلك. وادعاء الكاتب أن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم ما في اللوح المحفوظ هو خطأ كبير وجهل عريض بالنصوص الشرعية واعتقاد منكر، وإلا فماذا يقول الكاتب عن قول الملائكة للنبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة لمّا تردُّ الملائكة المبتدعة من حوضه ويقولون له: «إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك»؟! وماذا يقول في قصة الإفك وانتظار النبي عليه الصلاة والسلام الوحي؟! وماذا يقول في بيعة الرضوان التي كانت بالحديبية على إثر خبر أن أهل مكة قتلوا ذا النورين عثمان رضي الله عنه؟! وقد ورد في صحيح البخاري من حديث الربيع بنت وفيه: «قَالَتْ جَارِيَةٌ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لاَ تَقُولِي هَكَذَا وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ» وفي رواية الترمذي: «اسكتي عن هذا وقولي الذي كنت تقولين قبلها». كما ورد في صحيح البخاري أيضاً -عَنِ عبد الله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّهُ». وفي البخاري وغيره عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا أُمَّتَاهْ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلاَثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الآيَةَ وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ. وعلم الغيب الذي يعلّمه الله تعالى لنبيه وأنبيائه ما كان له صلة بتبليغ الوحي قال الله تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا «26» إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا «27» لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا «28» .. وهذا أمر معلوم وهو في غاية الوضوح وفي القرآن الكريم نقرأ: «قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ» وقوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ» وقوله تعالى: «قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» وقوله تعالى: «وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» وقوله تعالى: «وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ» وقوله تعالى : «قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» وقوله تعالى : « ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» .. هذا هو محكم القرآن وتلك هي سنة ولد عدنان في إثبات أن الغيب للواحد الرحمن وأنه يعلم من رسله من الغيب ما يبلغون به الرسالة وهذا النوع من الأخبار لا يدخلها النسخ كما هو معلوم في شروط النسخ في علم أصول الفقه، ونفي علم الغيب عن أحد من خلق الله هو ما أثبته الله لجميع الرسل والأنبياء فخليل الله إبراهيم لم يعلم أن ضيوفه ملائكة فذبح لهم وقرب إليهم الطعام!! ونوح أول الرسل لم يعلم أن ابنه لم يؤمن!! وآدم لم يعلم ما يصيبه من أكل الشجرة فظنه الخلد وملكاً لا يبلى!! وسليمان لم يكن يعلم عن ملك بلقيس ومملكة سبأ إلا بخبر الهدهد!! وزكريا لم يكن ليعلم أن الله سيرزقه بيحيى السيد الحصور النبي الصالح!! والملائكة لم تكن تعلم أسماء ما سألهم الله عنها حتى قالت «لا علم لنا إلا ما علمتنا» والجن أخبر عنهم الله بأنهم لا يعلمون الغيب وذلك في قصة موت سليمان عليه وعلى جميع الأنبياء السلام، قال الله تعالى : «فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين»، ومع هذه النصوص الواضحات التي تبين أن صفوة الله ورسله وأنبياءه عليهم الصلوات والتسليمات ليس لهم معرفة واطلاع بالمغيبات إلا أن بمجتمعنا وغيره كثيرًا من السحرة والدجالين والدجالات وبعض من يسمون شيوخاً يدعون معرفة الغيب وإعطاء الأولاد والذريات وتوزيع الأرزاق والأقوات!! وهو باب كبير للغش والضحك على الجاهلين والجاهلات والسذج والساذجات.. وأما ما استدل به الكاتب من نصوص لإثبات ذلك فهو لا يصلح للاستدلال فهي أخبار مخصوصة في ما يعلمه الله تعالى لنبيه لأجل البلاغ وهذا يدخل في باب العموم والخصوص والتخصيص وباب الجمع بين النصوص الذي هو من أهم أبواب علم أصول الفقه.. وإلا فأقل الناس علماً بالنصوص الشرعية يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يجب عن أسئلة كثيرة فقد سُئل عن الأنفال واليتامى والشهر الحرام والمحيض والمواريث والروح في آيات «يسئلونك ...» وغيرها، فانتظر عليه الصلاة والسلام الوحي.. والكاتب ينقل ليبرر قول البوصيري معرفة النبي عليه الصلاة والسلام لعلم اللوح المحفوظ فأقول: وهل ما لم يعلمه النبي عليه الصلاة والسلام مما ذكرت بعض أمثلته يكون غير مكتوب في اللوح أم ماذا؟!!! وقد بينت أن المتصوفة أثبتوا علم الغيب للنبي عليه الصلاة والسلام ثم تجاوزوا به إلى غيره كعادتهم وأوردت نماذج ذلك من ديوان البرعي ومنه قوله: ولهم به سمع وأبصار بها قد يبصرون اللوح والأقلاما !!!! فلم يعد اللوح محفوظاً.. عياذاً بالله من مناقضة كلام الله تعالى وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام وادعاء ما هو حق خاص للرب جل وعلا.. ولما بينت ما يقع في المولد من غلو وأوردت أبياتاً للغلو في ديوان رياض الجنة وفيها ادعاء أن الدنيا خلقت لأجل النبي عليه الصلاة والسلام وبينت أن هذا يناقض ما ورد في الغاية من الخلق كتب الكاتب هداه الله: «وهذا الذي أنكره الكاتب هو من فرط الجهل ففي المصنف رقم 18 عن عبد الرزاق عن معمر عن محمد بن المنكدر أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضى الله عنه قال: سألت رسول الله عن أول شيء خلقه الله؟ فقال هو نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير وخلق بعده كل شر، فحين خلقه أقامه قدامه في مقام القرب اثنى عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أقسام: فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم...» إلى آخره. وهذا من آفات التقليد الأعمى الذي سار عليه الكاتب، فقد قلّد بعض من كتبوا في هذا الأمر من الصوفية وأورد هذا الحديث الذي ادعى بعضهم أنه في مصنف عبد الرزاق، والحديث باطل مكذوب لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام وليس في مصنف الإمام عبد الرزاق وليس في تفسيره، وأورد هنا شهادة من المنتسبين للصوفية أنفسهم!!! يقول عبد الله بن الصديق الغماري معلقاً على قول السيوطي في «الحاوي» على هذا الحديث: «إنه غير ثابت» «وهو تساهل قبيح بل الحديث ظاهر الوضع، واضح النكارة، وفيه نَفَسٌ صوفي...» إلى أن قال: «والعجب أن السيوطي عزاه إلى عبد الرزاق، مع أنه لا يوجد في «مصنفه» ولا «تفسيره» ولا «جامعه» وأعجب من هذا أن بعض الشناقطة صدَّق هذا العزو المخطئ، فركَّب له إسناداً من عبد الرزاق إلى جابر، ويعلم الله أن هذا كله لا أصل له. فجابر رضي الله عنه بريء من رواية هذا الحديث، وعبد الرزاق لم يسمع به، وأول من شهَّر هذا الحديث ابن عربي الحاتمي..» إلى قوله: « فلا بُدَّ أن أحد المتصوفة المتزهدين وضعه، ومثل هذا الحديث ما روي من طريق أهل البيت عن علي عليه السلام مرفوعاً: { كنت نوراً بين يدي ربي قبل أن يُخلق آدم بأربعة عشر ألف عام} وحديث: {لولاك ما خلقت الأفلاك} وكتب المولد النبوي ملأى بهذه الموضوعات، وأصبحت عقيدة راسخة في أذهان العامة». إنها آفة عظيمة ومنكر كبير أن يتصدى مثل هذا الكاتب «المقلّد» و«المحتطب ليلاً» لإيراد مثل هذه الموضوعات ويدافع عن العقائد المنحرفة المناقضة للكتاب والسنة، كما قد تصدى أحد مقدمي البرامج التلفزيونية الحالية لإثبات مشروعية المولد وما يحصل فيه بقوله: نحن أفارقة ونحب الرقص ..!! فما هكذا يكون الإفتاء يا مقدم البرنامج.. وأواصل إن شاء الله هذه الجزئية وما بعدها في الحلقة والحلقات التالية...