تناولت الشهر الماضي تحقيقاً نشرته صحيفة «السوداني» في ذلك الوقت عن بعض الأسر المحترمة التي بسبب الفقر وضغوطه اضطرت لأكل «الكرتة» وهي مخلفات المطاعم، وكان التحقيق الصحفي قد أجرته زينب بدل تحت عنوان (أسر تحت أقدام المجتمع بيوت محترمة تقتات من «الكرتة») وأشار التحقيق بحسب نصه «أن بعض النساء يجتمعن كل يوم ويذهبن إلى صاحب «الكافتريا» في آخر الشارع ينتظرن قليلاً ثم يأتي ويعطيهن بعض الأكياس وبالمقابل يأخذ منهن مبلغاً بسيطاً ويذهبن، هذه الأكياس مليئة ببعض بقايا الطعام من أصناف مختلفة، هي تساعد قليلاً في وقف زحف الجوع عندما يبدأ» تلك هي الصورة الواقعية التي نقلتها الصحيفة بذات الكلمات ثم أضافت عليها رأياً طبياً لتبيان مخاطر هذه الأطعمة، واقتصادياً من أجل البحث عن ملامح توضح معالجة أزمة الفقر. ويوم الخميس الماضي استوقفني تحقيق صغير أيضاً في صحيفة «السوداني» ورد في صفحة «مال وأعمال» تحدث عن الأسر التي أجبرتها الظروف الاقتصادية القاسية أن تشتري العظام والشحم لإعداد «الربيت»، وأشار التحقيق إلى بعض هذه الحالات مستطلعاً عدداً من الجزارين وتحدث في البدء عن امرأة تدعى فاطمة في العقد الثالث من عمرها قائلاً: «تأتي يومياً باكراً لصاحب جزارة بأحد أحياء الخرطوم من أجل أن تحظى بحفنة من العظام لصناعة شوربة منها أو حلة طبيخ تسد رمق صغارها الخمسة الذين توفي والدهم في حادث سير ولم يترك لهم ما يعينهم في دروب الحياة المتقلبة فيما تنفق فاطمة ما بين «10- 15» جنيهاً للحصول على كيلو من هذه العظام من جملة ما تحصل عليه من عملها ببيع الآسكريم الذي لا تتعدى ال 25 جنيهاً». وأكد الجزارون لنفس الصحيفة أن كثيراً من الأسر تجبرها تكاليف المعيشة الباهظة لشراء العظام، مشيرين إلى زيادة في الطلب حتى أن بعضهم يضطر إلى حجز حصته من العظام،لأنهم بالطبع غير قادرين على شراء اللحم لارتفاع ثمنه حيث يتراوح كيلو البقري ما بين «42- 45» جنيهاً و«55-60» لكيلو العجالي. وأشار جزار آخر أن سعر كيلو العظام بلغ «12» جنيهاً «طبعاً بعدما زاد الطلب» وأن زبائنه أكثر من الذين يشترون اللحوم وأن بعضهم يشتري كيلو من العظام إضافة إلى ربع كيلو لحم «ديل المبحبحين شوية» وأن بعض زبائن العظام يشترون أيضاً شحماً لصناعة الربيت أو لعمل شوربة. وتقول ربة أسرة ويبدو أنها أفضل حالاً من غيرها أنها تشتري العظام حوالي ثلاث مرات في الأسبوع بعد ارتفاع أسعار اللحوم. ولا شك أن بروز الفقر في المجتمع إلى تلك الدرجة التي تدفع بالأسر وليس المتشردين وحدهم لأكل الكرتة، وطبخ البعض الآخر للعظام كبديل للحم أمر ينبغي الانتباه إليه وعلى الأجهزة المعنية بمساعدة الفقراء والحد من نسبة الفقر كديوان الزكاة والمنظمات الخيرية والمصارف دور في كبح تمدد هذه الظاهرة المأساوية بتقديم الدعم وتمويل بعض المشروعات الاقتصادية الصغيرة، لكن ذلك بالطبع لن يكون له تأثير كبير ما لم تحدث إصلاحات في البنية الاقتصادية بعد انهيار عدد من المشروعات الزراعية الكبرى وضعف مردود الأخرى كمشروع الجزيرة العملاق وخروج العديد من الشركات وتوقف بعض المصانع عن العمل بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج من جمارك وضرائب ورسوم أخرى وقيمة فاتورة الكهرباء وانحسار نسبة الصادر والمضاربات في العملة الصعبة إضافة إلى قضية الفساد والتجنيب المالي. إن على المسؤولين الاعتراف بتمدد الفقر بدلاً من محاولة تخفيف نسبته في المجتمع لأن اخفاءه لن يجدي شيئاً، فالفقر يعايشه الناس في الشوارع وفي البيوت وتحس به قطاعات واسعة بما فيها قطاعات العمال والموظفين وأصحاب المهن البسيطة، ذلك لأن الاعتراف يعني الجدية في بدء التصدي لتخفيف حدة الأزمة، أما المسببات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية لا أحد يدري متى ستتحقق لأنها رهينة بأحداث تغييرات جذرية سياسية واقتصادية. أخيراً إذا كانت الجزارات في السابق لا تبيع العظام عدا التي يصاحبها اللحم لأن لا أحد يفكر في شرائها بل تذهب لمكب النفايات، والآن بعد أن أصبحت مطلوبة بإلحاح لدى كثير من الأسر فهل من المنتظر بعد ذلك أن تجوع الكلاب الضالة ولن تجد وجبتها المفضلة بعد مزاحمة الفقراء لها؟ وعندئذ إذا حدث ذلك نخشى قريباً أن تهاجم الأطفال كما فعلت الكلاب الضالة قبل سنوات عندما داهمت أسرة فقيرة تقطن في عشة من القش والجوالات واختطفت طفلاً صغيراً يدعى أكول في إحدى المناطق الطرفية بالخرطوم. «ويا ناس المليارديرات والهامبيرقر والهوت دوق شوية حنية وتذكروا أن الصدقة تطفيء الخطايا كما تطفيء الماء النار وما أكثر خطايا الهمبتة».