لا تكاد تركب سيارة أو بصاً وتيمم شطر الشمال قاصداً قرية سلقي حتى تعتريك الدهشة، وتنتابك الغبطة، من النسيم العليل الذي يغشى صفحة وجهك ويداعب خياشيمك، ولم تكد تبرأ من هذه الدهشة، حتى تسمع أزيز الإطارات التي تطوى الأسلفت طياً رقيقاً فتجلس فى مقعدك رزيناً هادئاً مستقر الأعصاب، فيدب فى جسمك النعاس، ثم يمسك بجانحيه مساً رقيقاً فتخلد الى النوم وتغرق فيه الى أذنيك، فتصدر صوتاً رخيماً كأنه خرير المياه المنسابة من الجبل، أو متدفق من نهر اعترضه التيار فتضطرب جوارحك من سحر النغمات الشجية، فتتراقص وتتمايل ثم تخرج عن طوعك فيترنح الرأس يمنة ويسر، وتبسط الأيدى وتمتد إلى غير وجهة. وما هي إلا لحظات حتى تغشى مخيلتك أضغاث أحلام بعضها طيبة تمر مراً سريعاً فتستبطىء نفادها وبعضها مرعبة فتستعجل نفادها، ولا تزال تتقلب بين هذه الأحلام حتى تستيقظ فزعاً من أثر لكزة أو لكمة من الصاحب بالجنب، فتستقيم جالساً، فتعود أدراجك بذاكرتك الى الوراء، فتستدعي السنين التي انصرمت والأيام التي خلت، وتستحضر أحداثها وأهوالها عندما كانت العربات تسير في طرق وعرة، غير معبدة فتضل الطريق وتتوه في خضم الصحراء القاحلة، فبعضها تهتدي بعد لأي إلى الطريق، وبعضها لم يحالفها الحظ فتظل هائمة دون وجهة، فتجد أثراً من الآثار التي خلفتها الرياح فتظنها طريقاً مستقيمة فتسير فيها ولا تكاد تقطع بضعة كيلو مترات حتى تجد نفسها في ذات المكان الذي بدأت منه الانعطاف، فتسلك طريقاً أخرى فتسير بها حتى تصل الى كثبان رملية متراكمة، فتعود أدراجها الى نفس المكان، وهكذا حتى ينفد الماء والوقود، فيعتريهم اليأس، فيندبون حظهم العاثر، فمنهم من يتجلد ويصبر ويستسلم لقضاء الله وقدره ويلوذ بالصمت، ومنهم من يخرج عن طوره، ويثور ثورة عارمة ويصب جام غضبه على السائق الذي لم يستطع أن يتبين الطريق الصحيح، فيظلون هكذا حتى يأتيهم المصير المحتوم فمنهم من يلقى حتفه، ومنهم من يسير على رجليه حتى ينجو بأعجوبة من الكارثة. لا تكاد تفرغ من هذه الذكريات المرعبة، حتى تجد نفسك تلح عليك إلحاحاً شديداً لإسداء الشكر والثناء والتقريظ للذين قيضهم الله فى تعبيد هذه الطريق ورصفها بالأسفلت، فصارت ذلولة منبسطة لا عوج فيها ولا أمتا، تنزلق فيها إطارات السيارات إنزلاقاً رقيقاً يغري بالنوم ويدعو النعاس إلى جفنيك هذه الخواطر التى تستبق الى ذهنك، وتزدحم فى مخيلتك إزدحاماً، لم تكد تنفد حتى تنظر فترى أمامك وعن يمينك وعن شمالك أشجار السلم والكتر والمرج قد نبتت مبعثرة هنا وهناك، فالتحفت السماء وافترشت قشاً جافاً.. قد هجره الناس إلا بعض الأعراب الرحل الذين يجوبون وديانها، ورمالها بقليل من الإبل والماعز والضأن، وما هى إلا بضعة كيلو مترات حتى تتناقص هذه الشجيرات وتختفى عن الأنظار، فتأخذ الأرض شكلاً جبلياً تكاد تعدم فيها الحياة. وتظل هكذا حتى تقترب من مدينة الدبة، فيقترب منك النيل رويداً رويداً، فترى أشجار النخيل باسقات لها طلع نضيد، قد لاحت فى الأفق البعيد كأنها خط أسود شق سراباً أبيض، ولا تكاد تقترب أكثر حتى يتبين لك الخط الأسود من الخط الأبيض من السراب، ثم تظهر لك المعالم بجلاء، فتنظر الى النخيل تقف شامخة مصفوفة فى صفوف متوازية. وترى النيل بين صفوفها كأنه بساط فضي يسر الناظرين، والقرى المنتشرة على ضفاف النيل تراها قد رصت أيضاً ونظمت فى عقد جمع أولها بآخرها، ولم تكد تخرج من قرية حتى تدخل أخرى، ولم تكد تقترب من قرية حتى يبدأ السائق في عزف البوري، فيصدر نغمات رخيمة ينبئ بها أهل القرية ان البص قد وصل، يحمل إليكم ذويكم وأحبابكم. على هذا المنوال يسير البص من الخرطوم حتى يصل قرية سلقي، فإذا بأهل القرية قد احتشدوا فى المحطة يتنظرون قدوم الأهل والأحبة، منهم من كان عنده علم بميقات وصول البص فهرع الى المحطة منذ وقت مبكر، ومنهم من إنشغل بقضاء مآربه وأشغاله بالحقل ففاجأه صوت البوري فترك عمله وراء ظهره وأطلق ساقيه للريح وأسرع الى المحطة. عندما يصل البص تعتريك الدهشة وينتابك الاستغراب لما تراه عيناك من حفاوة الاستقبال ،وحرارة التحايا وشدة الشوق، وقوة السلام، فتنظر فترى فى الوجوه كرات من الدموع قد اغرورقت على العيون وكادت تسقط، لم تلبث ان تستحيل إلى قطرات وتتساقط على الخدود، ثم تصحبها عبرات متقطعة لا تلبث أن تتحول الى شهقات متهدجة ثم تستحيل الشهقات الى بكاء ثم إجهاش بالبكاء وإغراق فيه. ولا أسرف فى القول إذا قلت إن كثيرا من المسافرين ينغمسون فى خضم السلام الحار والتحايا المفعمة بالشوق والمحبة فيخرجون عن دائرة المصالح والمنافع الذاتية ويلجون الى عالم العاطفة والحنان والمحبة، فينسون أغراضهم وحقائبهم فى البص ويذهبون الى الديار فى زفة الأهل والأقارب والأصدقاء ثم يتذكرون فيعودون أدراجهم الى البص فيأخذونها. ولم تكد تصل وتجلس فى فناء الحوش حتى تنظر فترى جمعا غفيرا من أهل القرية قد أقبلوا على الدار من كل صوب فرحين ومستبشرين بقدومك، يلقون عليك السلام ويجلسون محيطين بك إحاطة السوار بالمعصم يستخبرونك عن أهليهم وذويهم فى الخرطوم وترى أهل الدار منهمكين فى ضيافة الزوار، يقدمون لهم ما جادت بها الدار من الطيبات وقد انبسطت أسارير جباههم الندية، وانبعث النور من وجوههم القمرية المضيئة، فانشرحت صدورهم، واعترت ثغورهم ابتسامات عريضة. أما فتيات القرية، فيدخرن زيارتهن حتى مغيب الشمس، فيأتين فى جنح الظلام ليتفقدن أحوال الأهل والأحبة، فلم يكدن يسمعن أخبار مفرحة عن خطبائهن حتى يرسلن أنفسهن على سجيتهن فيضحكن ملء أفواههن ثم يعدن أدراجهن الى ديارهن فرحات مغتبطات، فينمن قريرات العيون هادئات البال ولا سيما اللاتي نما الى علمهن ان خطابائهن يتأهبون للقدوم الى القرية لإتمام مراسم الزواج واصطحابهن الى المدينة. الأحداث والحياة الاجتماعية التى عرضنا لها آنفاً جرت فى قرية دامبو سابقاً وسلقي حالياً، وقبل ان نستطرد فى الحديث ونسترسل فى وصف هذه القرية نعود أدراجنا الى الوراء، لنستحضر الحقب التى خلت ونستدعي القرون التى إنصرمت، عبر التاريخ للإحاطة ببعض المسميات التى كانت تسمى بها القرية، ورغم ضياع الكثير من الحقائق عن تاريخها، الا ان هنالك بعض الومضات الصغيرة المدعومة ببعض الشواهد التى تؤكد أنها عاصرت العهد المسيحى وكانت تسمى فى ذلك الوقت دمبو دول، ثم سميت في عهد الفتح الإسلامي بالمسيد، ثم سميت أخيراً بقرية سلقي.