الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة: عمتى سكينة
نشر في الراكوبة يوم 23 - 11 - 2011


[email protected]
صعدت سكينة الى داخل البص وجلست على احد المقاعد الامامية قرب النافذة على الجانب الايمن وهى متجة ناحيتى. كنت جالسا فى مقعد على الجانب الايسر قرب النافذة. وقد اخترت هذا المكان حتى استمتع برؤية المناظر الجميلة التى افتقدتها فى الاشهر السابقة التى قضيتها فى الجامعة الموجودة فى مدينة بعيدة. واشتقت الى الريف والى قريتى بالتحديد. وهى تقع وسط قرى صغيرة متجاورة. اشتقت الى اهلها ومناظرها الطبيعية الخلابة وسوقها. هذا السوق الذى ساذهب اليه اليوم وامل ان ارجع منه سالما برغم استعدادى النفسى لحدوث مفاجات غير سارة فى رحلتى. حسبت ان سكينة تنتظر شخصا ما لانها اتجهت صوب الناحية الخلفية من البص وتركت المقعد المقابل لها خاليا على غير عادة معظم المسافرين. اخرجت عمتى سكينة مراه صغيرة من حقيبة جلد الاصلة الصغيرة الانيقة المعلقة على عنقها وبدات تنظر الى وجهها النير. عدلت من وضع شعرة نافرة ابت ان تلتزم بضوابط تصفيف شعرها الناعم الاسود الجميل. اعادت سكينة غطاء راسها الى وضعه الاول. كانت ترتدى ملابس نظيفة وانيقة وزاهية الالوان. الفستان القطنى الطويل قصير الاكمام يشبه لوحة رسام قدير. فهو يحتوى على رسومات بالوان رائعة تحاكى طبيعة المكان. اما الثوب (السارى) فهو ابيض يميل الى الصفار وشفاف الى حد ما وهو يغطى راسها وجسمها النحيف. وعمتى سكينة امراة فى عقدها الخامس لكنها ما زالت تحتفظ بجمال امراة ثلاثينية برغم كدها وبذلها الجهد الكبير فى سبيل تربية ابناءها
وفى الحقيقة لا تربطنى صلة قربى بهذه المراة الانيقة لكنى اناديها عمتى سكينة توقيرا كما يفعل اقرانى الشباب فى هذه القرية. ونحن هنا نحترم كبارنا كلهم ونناديهم بجدى وعمى فلان او عمتى فلانة . واجمل ما فى عمتى سكينة وجهها الرائع الوسيم وعيناها الواسعتان وخداها الناعمان. ولها بشرة ندية نضرة يزيد لمعانها فى الساقين وعلى الجبين
وضعت عمتى سكينة الاشياء بعناية. ربطت الديك السمين من رجله على يد القفة (سلة من السعف) وحشرته داخلها وربطتها على رجل كنبة البص. وضعت قفة اخرى بها مصنوعات يدوية بين رجليها. كان بالقفة الثانية مجموعة من البراتيل (اغطية الاكل) والهبابات (نفاثات الهواء) وغيرها من الادوات المنزلية المصنوعة من سعف النخيل. اما القفة الثالثة فقد كان بها رمل موضوع عليه بيض مرصوص بعناية. وهذه القفة موضوعة بالجانب الايمن. استرخت عمتى سكينة ثم اخرجت المراه مرة اخرة ونظرت الى وجهها وشعرها. ازالت ريشة من الديك كانت قد استقرت على شعرها ثم غطت راسها من جديد. نظرت الى الديك فتبسمت فبدت وجنتاها اكثر بروزا وزاد هذا البروز من حلاوة تبسمها. اعادت المراة الى الحقيبة ثم عدلت من وضع ثوبها. اخرجت محفظة صغيرة بها نقود. احصت النقود مرتين ثم اعادت المحفظة الى مكانها ورتبت لبستها من جديد. فى هذه الاثناء بدا مسافرون اخرون يصعدون الى البص بامتعتهم ومنتجاتهم التى يودون بيعها فى السوق
.
اخرجت سكينة برتال وبدات فى اكمال صناعته. كانت تبدو على البرتال رسومات بالوان زاهية و اشكال هندسية كالمربعات والمثلثات والدوائر. جعلت سكينة تلف خيوط السعف حول الاطار ثم تستخدم الابرة لتشد الاطار الى الاطار الذى يليه شدا محكما ثم تعيد العملية من جديد بمهارة عالية. كنت اراقبها باندهاش وهى تحيك وترسم الدوائر باتقان فنان محترف. كانت لا تخطئ فى وضع خيوط السعف ذات الالوان المناسبة فى اماكنها المناسبة. واكثر ما اعجبنى ان اللوحة قد اشرفت بسرعة على الاكتمال نتيجة علو همتها واتقانها الممتاز لصنعتها. وهكذا حال نساء القرية فهن فى الغالب مجيدات لصناعة الادوات والاوانى المنزلية من السعف والحطب والفخار والجلود. وهى مواد متوفرة هنا. لكن لكل امراة ميزتها ومهارتها التى تمكنها من المنافسة فى السوق
صعد مسافر اخر وهو على عجلة من امره. تعثر وكاد ام يسقط على الديك. طار الديك محاولا الخروج من القفة لكن الحبل منعه من ذلك . امسكته عمتى سكينة من رجليه واعادته الى مكانه ثم اخرجت حبوبا من الذرة من كيس صغير ووضعتها امامه. تفحصت سلة البيض فاطمانت عليه ثم عادت من جديد لكى تكمل صناعة البرتال. وفى هذه الاثناء صعد رجل مسطول الى البص وجلس فى المقعد المقابل لمقعد عمتى وهو يرسم ابتسامه عريضة بلهاء. وهو رجل ادمن على تناول الحشيش فاصبح قبيح الهيئة متسخ الملابس كث الشعر نتن الرائحة وهو فى حالة لاوعى فى معظم الاوقات. لم يسلم المسطول على عمتى سكينة بل جلس يراقبها وهى تواصل صناعة البرتال وهو ما يزال يرسم ابتسامته البلهاء على وجهه المتسخ المنفر. فجاة اطلق قهقهة عالية مدوية من فمه ذو الاسنان المتسخة فطار على اثرها الديل من مكانه ورجع ثم طار عدة مرات قبل ان تتمكن عمتى من الامساك به وارجاعه الى مكانه. ثم رتبت الاشياء بسرعة و قالت:
حسبنا الله ونعم الوكيل وعليه توكلنا. يا ساتر يا جامع يا رقيب
نظرت سكينة الى المسطول بغضب ثم اخرجت مسبحة و جعلت تتمتم بدعوات وهى تحرك حبات المسبحةالصغيرة بين اناملها. بدات مرة اخرى تتفقد اشياءها واستوثقت من تمامها وسلامتها ثم عادت تواصل فى صناعة البرتال ذو الرسومات الجذابة. فى الحقيقة ضحكة المسطول شتت انتباهى عن خيط كنت منهمكا فى تتبعه فى كتاب. والكتاب هو احد المراجع التى نذرت ان اكمل قراءتها فى هذه الاجازة القصيرة. وفى الحقيقة اننى لم مرتاحا لوجود المسطول فى البص وبالتحديد فى هذا الصباح الرائع. انتبهت اليه فرايته مازال مبتسما وهو يراقب عمتى سكينة وهى منهمكة فى صناعة البرتال. تابعت قراءة الكتاب وانا اسال الله السلامة فى رحلة الذهاب والاياب
توقف البص فصعدت مجموعة اخرى من الرجال والنساء الذاهبين الى السوق. بعض النسوة كن يحملن مصنوعات من السعف مثل تلك التى تحملها عمتى. والبعض الاخر كان بحوزتهن مصنوعات جلدية و فخارية. كذلك صعد اخرون وهم يحملون دجاج و بيض و لبن وروب و سمن وعسل و حبال سعف و غيرها من منتجات هذه المنطقة الغنية بثروتها الزراعية والحيوانية. تحرك البص بعد ان اكتظ بالمسافرين واختلطت احاديث الناس مع اصوات الحيوانات وكلهم املين فى الوصول الى السوق بسلام. احيانا كان البص يتمابل بعنف يمنة ويسرة فيسود الصمت لبرهة لكن حالما يعود الناس لحالتهم الاولى غير عابئين بالتغيير المفاحئ او المهددات الامنية غير المتوقعة. كذلك توجد عدد من نقاط التفتيش وضعتها السلطات المحلية لضبط الامن او لاخذ الضرائب والجبايات الاخرى من الكادحين. وقد درجت بعض الجماعات المسلحة كذلك على وضع نقاط تفيش مؤقتة. وهم بدورهم ياخذون الجبايات من المواطنين. بدات تسكننى هواجس عن نقاط التفتيش وانا اقرا فى كتابى وانظر بين الفينة والاخرى الى المسافرين فاجدهم منهمكين فى احاديثهم وضحكهم ومراقبة اشياءهم. كانت عمتى سكينة مازالت منهمكة فى صناعة البرتال و مازال المسطول يراقبها وهو يتمسك بابتسامته البلهاء بلا كلل او ملل. اغمضت عينى لكى استريح لحظة من عناء القراءة وحمدت الله على السلام النسبى الذى يعم هذه القرى وهى فى اقليم كادت الحرب الاهلية ان تدمره تماما. وحمدت الله باننى اتمكن فى كل اجازة من زيارة اهلى والرجوع الى الجامعة بلا مخاطر امنية تذكر. بدا البص فى عبور وادى غطت جوانبه الاشجار الكثيفة والاعشاب. كان الوادى هادئا وهذه طبيعته فى هذه الشهور من السنة وكان مستوى المياه منخقضا فتمكن البص من العبور بسلام. كنا نستمع الى اصوات الطيور ونستمع الى القرود والثعالب و نستمتع بجمال الطبيعة فى هذا المكان الرائع
عبر البص الوادى وبعد عدة امتار برز مسلحون من بين الاشجار واوقفوا البص. يبدو انهم افراد عصابة مسلحة , وقد نصبوا نقطة تفتيش مؤقتة على بعد امتار من ضفة الوادى. امعنت النظر فرايت المسافرين يراقبونهم بحذر وترقب لكنهم ظلوا هادئين. كانت عمتى سكينة ممسكة بمسبحتها وهى تتمتم بايات ودعوات شرعت تتلوها كما فى المرة السابقة. كذلك فعل مثلها بعض الرجال وكثير من النساء. عندما توقف البص كان المسلحون يشهرون اسلحتهم تجاهنا. هممت ان اذهب اليهم فجذبنى جارى واعادنى الى مكانى. اخذ منى كتابى. اغلقه ووضعه بجانبى ثم وضع سبابته على شفتيه وضغط عليهما بقوة امرا بالصمت
تقدم احد المسلحين نحو البص وكان منهمكا بالتحدث عبر هاتف الثريا. كانت ملابسه اكثر نظافة من اقرانه وهيئته مرتبة. يبدو انه قائدهم. كان يتدلى من عنقه عقد من الاحجبة و التمائم والخرز وحبات الودع واعواد صندل صغيرة منظمة بدقة. وهو يعتقد, كغيره من المسلحين, ان هذا العقد يحمى من الرصاص. انهى القائد المكالمة بسرعة وتوجه نحو السائق. لم يتحدث مع السائق طويلا فرجع الى جنوده وامرهم بالصعود الى عربة اللاندكروزر رباعية الدفع. خربوا نقطة التفتيش قبل ان يتوجهوا نحو العربة. عندما صعد القائد وجلس فى المقعد الامامى تحركت العربية بسرعة وفى برهة تلاشت عن الانظار. لفظت اهة عميقة وانا اشعر بنسمة باردة تلفح جسمى والدهشة مازالت جاثمة على وجهى. لاحظت ان المسافرين كانوا قد بداؤا سريعا فى نقاشات متعددة حول اسباب الانسحاب السريع والمفاجئ للمسلحين. وفى الحال ادار السائق الماكينة و تحرك البص وسلك طريقه المالوف كان شيئا لم يحدث. اما عمتى سكينة فقد رايتها منهمكة فى صناعة البرتال. وانا بدورى عاودت القراءة مرة اخرى ولم تثنينى عنها الافكار المخيفة التى كانت تحاول تشتيت انتباهى. كنت بين الفينة والاخرى افكر فىما ينتظرنا فى نقاط التفتيش القادمة. كنت اعلم ان المرور بنقاط التفتيش الحكومية ليس نزهة . فالعساكر هنا ياخذون من هؤلاء الكادحين الضرائب والجبايات وكذلك الرشاوى وقد يتعرض بعض المواطنين للاهانات و المضايقات واحيانا الحبس. والناس هنا عادة لا يحتجون على الدفع لكنهم يطالبون بتنفيذ الوعود التى يقطعها المسؤولون على انفسهم. فهم لا يجدون معاملة حسنة من العساكر ومن جهة اخرى فان السلطات المحلية لا تقدم لهم اى خدمات مقابل ما تاخذه منهم. والمدرسة التى درست فيها انا هنا ودرس فيها ابناء عمتى كان قد شيدها المواطنون من التبرعات ومدخراتهم من ريع منتجاتهم الزراعية والحيوانية. و اضافة الى صناعة منتجات السعف والجلود فان عمتى سكينة الارملة تزرع ارضها بنفسها وتربى الحيوانات لتعول ابناءها وتدفع مصاريف تعليمهم وعلاجهم. وهى تحمد الله كثيرا و تعتبر نفسها محظوظة رغم الكد والعناء المصاحب لحياتها. فابنها الاكبر شارف على التخرج من الجامعة. وهو سيساهم معها فى مصاريف الاسرة عنما يجد عملا بعد التخرج. وهى تردد باستمرار: \"الحمد لله. نحمدك ونشكرك يارب\". وكل الذى تتمناه فى هذه اللحظات هو ان يمر البص بسلام عبر هذا الطريق المحفوف بالمخاطر حتى تصل الى السوق وتبيع اشياءها وترجع الى دارها وابناءها. والان اخالها قد اشرفت على اتمام صناعة البرتال وقد بدات تتلفت بين الفينة والاخرى وتكلم جارتها وتتبسم و تضحك احيانا. كن انظر اليهن وهن يتبسمن فى هذه اللحظات فيعمنى الامن والراحة والطمانينة فى هذا اليوم المشبع بالخوف والتوتر والمفاجات
اقترب البص من نقطة التفتيش الحكومية وشرع الناس فى التاكد من اشياءهم. و كذلك فعلت عمتى سكينة فاخرجت محفظتها واحصت النقود من جديد. تفحصت كذلك وضع الديك والبيض و منتجات السعف. كان المسطول مازال محتفظا بابتسامته البلهاء و عمتى سكينة لا تعره اى اهتمام. توقف البص فصعد بعض عساكر نقطة التفتيش وبداوا بتفحص الناس والاشياء. اخذوا رشاوى من بعض المسافرين ومن سائق البص ثم اهانوا الرافضين لدفع الرشاوى ونزلوا من البص
عندما بدا البص يغادر شعرت ببعض الراحة خاصة اننا اقتربنا من السوق. عند مدخل السوق نزلنا ونزلت سكينة وهى تحمل القفة التى بها الديك بيد والقفتان الاخريان بيد اخرى. اما حقيبة جلد الثعبان فهى مازالت معلقة على عنقها. تحركت عمتى سكينة مع النساء باتجاه السوق وتحرك المسطول وراءهم. كنت انظر اليها وانا معجب ايما اعجاب بشجاعتها وكفاحها وصبرها كاعجابى بوجها الصبوح وابتسامتها العذبة البراقة المستدامة. دخلت عمتى سكينة و مجموعة النساء الى السوق. و كن يحملن مصنوعاتهن و منتجاتهن التى يردن تسويقها. كانت النساء المكافحات يحملن منجات الجلود والسعف والفخار وبعضهن كن يحملن اللبن والسمن والروب والعسل والخضر والفواكه. بعد حين بدات المجموعة تبتعد رويدا رويدا الى ان اختفت فى زحمة السوق المكتظ. مضت دقائق ومخيلتى مازالت ملتصقة بملابس عمتى الانيقة النظيفة وابتسامتها ورسومات السعف الجميلة وكذلك منظر المسطول النتن الذى ما انفك يتتبع خطوات النساء خلسة. بدات بالتجول فى السوق وكانت تشغلنى فكرة تمكن الناس من بيع كلما بحوزتهم ورجوعهم بالسلامة. وهم لا شك سيدفعون الضرائب والجبايات الاخرى والرشاوى التى سيطلبها موظفى الحكومة الجشعين. وهم سيمرون بنقاط التفبش كلها فى طريق العودة. و سالت الله ان نتخطى هذه النقاط بسلام. لكنى على يقين بان عمتى سكينة ستقدر على الرد على من يحاول الاعتداء عليها وذلك لرباطة جاشها وصبرها وثباتها
تجولت فى السوق لساعات. كان مشهد السوق بديعا احتشد فيه جمال الوان الخضر والفواكه والملابس الجميلة مع الرسومات البديعة للمنتجات الجلدية ومنتجات الخشب والسعف والفخار. لمحت عمتى سكينة وهى تجلس بين نسوة يعرضت منتجاتهن للبيع. كنت اتوقف احيانا لكى استمع الى موسيقى دافئة مطربة و هى تختلط احيانا باصوات البائعين الذين يروجون لتجارتهم واصوات الحيوانات المعروضة للبيع وازيز مولدات الكهرباء. انتشيت برائحة المنقة والجوافة والبرتقال والاناناس. ثم دلفت الى مكان لبيع الماكولات. جلست على مقعد خشبى منسوجة عليه حبال السعف نسيجا جميلا. و اكلت لحم خروف مشوى وشربت شراب البلح المخمر. بقيت لمدة ساعتين ونيف اتحدثت مع الناس و اراقب المارة. كنت احيانا انظر خلسة الى جميلات ذوات اجسام رشيقة وهن لابسات عقود مشبعة بالالوان الزاهية وتتدلى من جدائل شعورهن الدقيقة حبات خرز وودع. وبعضهن دهن رؤوسهن بالدهن الحيوانى(الودك). جميلات وهن راكبات على الحمر او راجلات. قمت متكاسلا و تجولت مرة اخرى فى السوق ثم ذهبت الى موقف البص
جلست على حجر بانتظار البص الذى سياخذنى الى قريتى. اخرجت كتابى وبدات القراءة. كان تاثير مشروب البلح المخمر قد بدا يتلاشى من راسى. استمتعت بالقراءة ولم احس بوقت الانتظار الطويل. فجاة سمعت دوي انفجار هائل تلته اصوات اطلاق نار كثيف. نهضت واقفا وادرت وجهى تجاه الصوت. رايت جموعا تاتى جارية بسرعة نحوى ثم تتخطانى هاربة. اصطدم بى احدهم فسقط منى كتابى. جريت مع الجمع الهارب. كنا نجرى باقصى ما اوتينا من قوة. كنا نسمع اصوات اطلاق الرصاص وصراخ الاطفال والنساء. ونرى الدخان يتعالى فى الطرف الاخر من السوق. رايت دما يلطخ بعض الاشياء وفى احد الاماكن بضائعة مبعثرة على الارض. سقط رجل عجوز على الارض. رايت حمارا يحتضر بعد ان اصابه طلق نارى فى بطنه. كنا نجرى باقصى سرعة وكنا نرى الاشياء تمر مرور السحاب
مجموعة مسلحة هاجمت السوق. اهربوا سريعا. اسرعوا .اسرعوا
صاح فينا احد الهاربين وهو يمتطى حماره
اخذوا رهائنا وابلا وضانا وسرقوا الذهب والفلوس
صاح فينا هارب اخر
كنت مسرعا فى الجرى بحماس غير معهود برغم الالم الذى احسست به فى ساقى. اخيرا تاكدنا باننا ابتعدنا بما فيه الكفاية. وزاد من يقيننا انقطاع اصوات الرصاص والصراخ والعويل. فى الحقيقة اننا ابتعدنا مسافة كبيرة جدا عن السوق ولم نعد نسمع شيئا. ثم توقفنا. بعضنا لم يقتنع بانتهاء الهجوم والبعض الاخر ظهر عليه الاطمئنان وظن بان المسلحين اخذوا ما يريدون ورجعوا الى المكان الذى اتوا منه. ويرجع تفسير هؤلاء الى خبرتهم اللصيقة بهذه الاحداث المتكررة. كان من بين مجموعتنا طفل يبكى ويصرخ من الالم فقد اصابته رصاصة طائشة. احد الحضور قام بتقديم ملخص لما حدث فقال بان المجموعة المسلحة التى ارادت تفتيش بصنا فى وقت سابق من هذا اليوم هى التى قامت بالهجوم. وقد اسهب فى عرضه للشواهد ليثبت صحة ادعاءه. فى دواخلى كنت اميل الى تصديقه لبغضى الشديد للعصابة. و فى الحقيقة لا احد يستطيع ان يعطى معلومات مؤكدة فى مثل هذه الاحداث الا اذا اعترف المسلحون انفسهم. لكن صاحبنا كان متحمسا فى ما ادعى فلم اشا ان اعارض حديثه. هدا الحال قليلا فجلسنا لاخذ القليل من الراحة استعدادا للرجوع الى السوق
سحبت رجلى ببطء واستدعيت ما تبقى لدى من جراة و توجت من جديد الى السوق. وجدت ان الخراب قد عم السوق تماما. بعض المتاجر احرقت واخرى نهبت و اتلف ما بها. هنالك دماء على الارض وعلى المعروضات. رايت بعض منتجات الجلود والفخار و السعف مثل البروش والاغطية وغيرها مشتتة على الارض وبعضها محترق. رايت بعض التجار يلملمون ما تبقى من بضائع فى متاجرهم ويعيدون نتظيمها. كذلك شرع اصحاب البهائم فى استعادة بهائمهم التى فرت هائمة على وجوهها وهى تصيح. رايت بعض الناس من الذين اعرفهم ووجوههم متجهمة و حزينة. لم ار عمتى سكينة ولا النساء اللائى كن معها.
توجهت الى موقف البصات من جديد. انتظرت البص ولم يك معى كتابى هذه المرة. سيقتلنى الملل. ساستمع بلا شك الى المزيد من الروايات الكثيرة عن الحادث. و ستاتى عمتى سكينة وستحضر معها النساء الاخريات الى هنا. وسياتى الرجال وهم يحملون منتجاتهم التى استطاعوا انقاذها من الحرائق والنهب. سيحملون حبال السعف ومنتجات الجلود وارجل السرائر والمقاعد. كذلك المسطول ذو الرائحة النتنة سياتى مجرجرا خيبته مقتفيا خطى النساء. وعندما ياتى البص سنتحرك كلنا راجعين الى قرانا. وسنقابل عساكر الحكومة المرتشين فى نقاط التفتيش. سياخذون منا الضرائب والجبايات والرشاوى. وسيبصقون فى وجوه البعض ويهينون اخرين. وسيغازلون الفتيات الصغيرات الحميلات ذوات الاجسام الافريقية الجميلة والابتسامات الساحرة. وسنمر كذلك بنقاط التفتيش التى ستشيدها العصابات المسلحة. وستمرر عمتى سكينة حبات مسبحتها بين اصابعها وهى تمتم بالدعوات . و ستقرا القران . وهى حتما ستتمسك برباطة جاشها كما عهدتها دائما. لا استطيع رؤيتها الان مع فوج النساء القادم من بعيد, لكنها حتما ستاتى وستصعد الى البص ومعها سلاتها الثلاثة
محمد عبد الرحمن مهاجر
امستردام - هولندا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.