تحدثت في المقال السابق عن الحالة المتردية للمياه في السودان، وقد تناولت فيها هموم مَنْ عملوا في مجال المياه حتى وهم خارج المنظومة الرسمية، كيف وهم مهمومون بقضايا المياه، رغم أنهم أُزيحوا قسراً، وتم حل الهيئة القومية للمياه ذلك المرفق الذي ضم موسوعة من العلماء والباحثين في مجال المياه. إن الطلب على المياه ارتفع بمعدل «2.4» مرة سنوياً منذ عام «1970م» من حيث الاستخدام، وتستهلك الزراعة على المستوى العالمي «70%» وعلى مستوى الدول النامية ذات الدخل المنخفض أكثر من «90%». في الدول منخفضة الدخل يبلغ استهلاك الفرد السنوي للمياه «386» متراً مكعباً، حيث يذهب «91%» منها للزراعة، و «5%» للصناعة و«4%» للاستخدامات المنزلية. أما في الدول متوسطة الدخل فيبلغ نصيب الفرد منها «433» متراً مكعباً، يذهب منها للزراعة «69%» وللصناعة «18%» وللاستخدامات المنزلية «14%». أما الدول مرتفعة الدخل، فيبلغ نصيب الفرد فيها «1167» متراً مكعباً، تذهب منها للزراعة «29%» وللصناعة «47%» وللاستخدامات المنزلية «14%». ومن هذه الأرقام إذا اعتبرنا نصيب الفرد في السودان كما هو موضح أعلاه «386» متراً مكعباً، واعتبرنا عدد سكان السودان ثلاثين مليوناً، لوجدنا أن المتاح للمواطن هو «11.5» مليار متر مكعب، ونصيب السودان من مياه النيل «18» ملياراً. ومن هنا تبرز حقيقة مهمة وهي سوء استغلال الموارد المائية، هناك ما يقدر بسبعة مليارات متر مكعب من مياه النيل لا تستخدم، وهذه الكمية كافية لإضافة ثلاثة ملايين ونصف فدان للزراعة المروية. هذا بعيداً عن مخزون المياه الجوفية والأمطار الموسمية، وإذا حصرنا كمية المياه الجوفية في العالم لوجدناها ثمانية ملايين كيلومتر مكعب، بينما يوجد في البحيرات والأنهار العذبة في العالم فقط مئتا ألف كيلومتر مكعب..!! أي أن باطن الأرض يحوي من المياه ما يعادل «32» ضعف حجم المياه العذبة في البحيرات والأنهار في العالم. الأحواض الجوفية لم يتم استغلالها الاستغلال الأمثل، وكانت هناك دراسات جادة لهذه الأحواض، وقد كللت هذه الدراسات فظهرت الخرائط المائية لبعض الأحواض، ولكن العداء المستتر للأبحاث منع من تمويل هذه الدراسات، وقد تمت بعثرة الهيئة القومية للمياه التي كانت الجهة العلمية والبحثية الوحيدة التي تقوم بهذه الدراسات. توقفت أبحاث المياه جوفية كانت أم سطحية، وأصبحنا أسرى للأوهام، وصدقنا أن هناك بحيرة ضخمة مساحتها ثلاثين ألف كيلومتر مربع، وغير ظاهرة للعيان اكتشفها فاروق الباز في دارفور. صدقنا هذا، بل وإن أحد المؤتمرات أصدر توصية بمد الفاشر بخط أنابب من هذه البحيرة، كما أظن أن بعض الحالمين فكروا في الاستثمار بإقامة منتجع حول البحيرة تحت اسم شرم الباز!! نعم كانت هناك بحيرة ولكنها جفت قبل اثني عشر ألف سنة، وخرائطها موجودة في مركز أبحاث المياه الجوفية الذي كان يتبع للمرحومة طيبة الذكر «الهيئة القومية للمياه». إن تقدم الشعوب والأمم يتناسب تناسباً طردياً مع مقدار مقدراتها المائية، فكلما زادت مقدرة الأمة المائية كانت فرصها للتقدم أكبر، وأينما وجد الماء وجدت الحضارة، فالحضارات ما قامت إلا على ضفاف الأنهار، فما الذي يجعلنا نستخف بالماء وهو المنزل الإلهي ومعين الحياة المادي بجانب القرآن الكريم «معينها الروحي». أننا نعيش أسوأ أنواع الفقر وهو الفقر المائي، وهذا الفقر ليس بسبب ندرة المياه كما في كثير من بلدان العالم، إنما سببه سوء الإدارة وسوء تقدير عنصر المياه على أعلى درجات الدولة، فهم يتعاملون مع مسألة المياه بذات الدرجة التي يستسهل فيها تلميذ الابتدائية الامتحان بوصفه «ساهل موية»!! وما دروا أن أزمة دارفور هي في الأساس أزمة مياه، ولو أنفقت الدولة عُشر مِعْشار ما صرفت في الحرب لحفر آبار وإنشاء سدود وحفائر، لما انطلقت طلقة واحدة من دارفور الحبيبة. المواطن في السودان إما راعٍ أو مزارع، ولا يطمع الراعي في أكثر من مرعى يرعى فيه غنمه وماء تشربه ماشيته، وكذلك المزارع لا يطمع في أكثر من ماء يروي به زراعته ليحصدها، إن وجد هؤلاء الماء ما ضرهم بعد ذلك من يحكمهم. لا أدري من الذي استل سيفاً قضى به أول ما قضى على الهيئة القومية للمياه، ومن ثم استدار نحو وزارة الري ففرقها أيدي سبأ وتناثر دمها على بقية الوزارات، ولشديد الأسف لا توجد وزارة معنية بشؤون المياه، ولا أحد يفكر في الشأن المائي، فالذين تولوا هذا الشأن هم من فاقدي القدرات، وتشهد بذلك شوارع الخرطوم الغارقة في المياه التي حرمت منها المنازل. الإخوة الذين عملوا في مجال المياه، إن قضية المياه تهم الجميع في المقام الأول، كما تهمكم أنتم أكثر من أي شخص آخر.. فأنتم الذين تعرفون الحلول وهذه مسؤولية إلهية، وما تقدمونه لتوفير المياه للإنسانية إنما هو صدقة جارية إلى يوم القيامة، هلموا أيها الإخوة لنقدم لبلدنا وإخوتنا في والغرب والشمال والجنوب خبراتنا ومعرفتنا في مجال المياه، ولنبرئ ذمتنا أمام اللَّه ليكرمنا في الدنيا والآخرة، كما كرم السيدة هاجر التي بحفرها بئر زمزم قام أعظم بيت عرفته الدنيا يحج إليه الناس كل عام من كل فج عميق. هلموا أيها الإخوة.. فما عاد الوقت يحتمل الانتظار.