الراصد للساحة السياسية يرى كثيراً من الأخبار والأحداث والوفود التي تترى إلى حاضرة البلاد عبر تشكيلات قبلية تلتقي بالساسة وقادة العمل السياسي بل ترفد الصحف بإعلانات تأييد ومؤازرة لبعض محاسيبهم الذين نالوا منصباً تنفيذياً أو ترقى في مراقي السلطة صعوداً الى أعلى وفي حالات الهبوط نجد وفود القبائل حاضرة ومشاركة ومجادلة في الشأن العام وهذا الأمر يدعو إلى الوقفة فلقد حرفت الدراسات السياسية وعلم الاجتماع السياسي ومن خلال رصده لمراحل تطور أي مجتمع من المجتمعات انه يمر بمراحل تشكل عمليات التراكم القاعدة الصلبة ومنصة الانطلاق نحو أفاق أرحب وهذا يأتي عبر مراحل وهي طور الأسرة والعشيرة والقبيلة ثم ترتقي هذه المستويات كما يحكي تاريخ السودان السياسي الى أفق أرحب وهو التقاء تلك الأسر والأفخاذ وخشوم البيوتات حول زعيم ديني، منظومة طائفة دينية تدير الشأن الديني والسياسي عبر مراتب الطائفة والطريقة ذات النزوع السياسي والاجتماعي، وهذه مرحلة من مراحل التطور أي مرحلة ما فوق القبيلة ولقد لعبت الطائفة دوراً مهما في تطور العملية السياسية والاجتماعية وساهمت في تعزيز دور الحركة الوطنية وتطورت الأحداث فتجاوز المجتمع بعضاً من قادة الطوائف وكون أحزاباً سياسية قومية للجميع ابتعدت عن فسطاط الطائفية ونواميسها بل دخلت تلك الأحزاب القومية في صراع مع تلك الطوائف الدينية باعتبارها عقبة كؤوداً في طريق التطور السياسي رغم أن وجودها أملته عملية تطور المجتمع وكان يمكن للطوائف الدينية اذا تحلت بشيء من الديمقراطية داخل مؤسساتها ان تقدم خدمة جليلة للتجربة الديمقراطية لكن هذه الحال لم يترك لكي يتفاعل طبيعيا كما ينبغي فقامت الإنقاذ بانقلابها على الديمقراطية 1986م وأول ما فعلته حلت الأحزاب والبرلمان وضيقت على الناشطين سياسياً من كل الأحزاب بل أصبح العمل الحزبي السياسي جريمة فشرد الكادر الحزبي أي شرد من شرد وطورد من طورد وأرهب من أرهب ورغب ما رغب وتلقت الأحزاب ضربات عمودية وهذه المواجهات القاسية التي وصلت الى حد حمل السلاح كان هذاالعمل خصماً على عملية التطور الديمقراطي والارتقاء بالعمل السياسي، فلجأت الأحزاب الى باطن الأرض وكهوف الليل وأصبح العمل الحزبي في ظل المقاومة أشبه بالعمل العسكري وكان حري بالإنقاذ عندما انقلبت على الحكم كان حري بهم أن يقدموا عقدا سياسيا واجتماعيا جديدا للأحزاب بدلاً من حشر الجميع في زاوية حرجة، أي كان يمكن ان تكون هناك مرحلة انتقال تأتي بعدها ديمقراطية حقة متفق عليها لكن الإنقاذ حينما التفتت تبحث عن التأييد والزخم الشعبي أمام مصادرة الأحزاب وأمام السعي لكسب قواعد خارج دوائر الحركة الإسلامية لجأت الإنقاذ الى اسوأ المناصرين بل ارتدت بالبلاد حقباً الى الوراء فلجأت الى زعماء القبائل والعشائر ومن أجل اتساع دوائر الكسب السياسي قسمت الإدارات القبلية الى عدة إمارات كل أمير له توصيف في بروتوكول الدولة فأطلت القبيلة برأسها بل أناخت وسط المشهد السياسي بركابها بعد أن وطنت لها الإنقاذ المواطن ورفعتها على أعواد المنابر رغم ان الإنقاذ جاءت تزعم ان لها مشروعاً إسلاميا الأصل فيه نبذ القبلية، لكن مطلوبات التأييد والكسب السياسي جعلت الإنقاذ لا تلتفت الى شيء غير التأييد السياسي رغم أن بواكير حركة الإخوان المسلمين بالسودان أيام الشيخ طالب الله والرشيد الطاهر وحتى بدايات عهد الترابي قبل الإنقاذ لم تركن الحركة وترتمي في أحضان القبيلة وعصبياتها، بل لجأت إلى دوائر الطلاب والمرأة والجامعات والمتعلمين والمهنيين، بل كانت الحركة الإسلامية إحدى مراحلها حربا على الطائفية وحاربتها حرباً لا هوادة فيها، لكن اللهاث وراء المكاسب السياسية والتمكين الجماهيري أنسى قادة الإنقاذ قول النبي صلى الله عليه وسلم في القبيلة (دعوها فإنها نتنة) فأصبحنا نسمع في هزيع الليل وأطراف النهار أخبار الوفود والحجيج الأعظم من زعماء القبائل والعشائر الى مراكز السلطة، بل أصبحت القبيلة حاضرة كعنصر أصيل في كل معادلة سياسية بحكم التوازن، ورغم كل هذا لم تفد الإنقاذ أو البلاد من الأمر شيئاً سوى علو صوت القبيلة على صوت الوطن والمصلحة العامة ويبدو أن قادة القبائل ادركوا مبكراً حاجة أهل الحكم لهم فما انفكت طلباتهم تنداح صوب مركز البلاد تتحدث في كل شيء وتحاصص في كل شيء واستطعمت القبيلة طعام السلطات فوجدته حلو المذاق سهل الرضاع عصي على الفطام فأصبحت القبيلة حاضرة في كل قضايا البلاد السياسية سلما وحربا وأصبح أمر استشارتها وأخذ رأيها في كثير من القضايا امراً مفروغ منه وهذا الشرخ الفادح في الوجدان السوداني لم تسلم معه حتى المؤسسات العلمية الكبرى مثل الجامعات التي تكونت بها روابط لا على أسس جغرافية أو أكاديمية أو بحثيه بل على أسس قبلية صارخة ويبدو أن بعض المثقفين والمتعلمين والساسة من تلك القبائل استمرأوا الرضاعة من أثداء السلطة باعتبار أنهم عبر هذا يحققون كثيراً من المكاسب بالحق وغير الحق، فظلت القبيلة وأمواجها تنداح صوب مسارح الأحداث في كل صوب وشبت القبيلة على الطوق وقويت أشواكها وزادت أشواقها للمناصب، ورأينا هذا في الانتخابات الأخيرة، وهذا الاتجاه يمكن أن يقود البلاد الى أيام داحس والغبراء وأحزان مهلهل فارس ربيعة وثارات كليب وفواجع البسوس، وهذا سوف يؤثر سلباً في تطوير العملية الديمقراطية والحراك الاجتماعي بل سوف يقضم كثيراً من تجربتنا السياسية، فكان حري بنا ان يكون صراعنا وتنافسنا سياسياً محضا فكراً بفكر، لكن يبدو أننا نسبح في فضاء الألفية الثالثة وتتقاذفنا تيارات القبيلة فبعداً لعاد كما بعدت ثمود. واخيراً نتقدم بالسؤال: لماذا لجأت الحركة الإسلامية الى هذه المكونات ورجعت بفكرها الإسلامي الذي يدعو الى العالمية باعتبار أن الإسلام رسالة كونية لكل أهل الكوكب، هل هو الكسب السياسي والتأييد؟! أم أن قضية الإسلام شعار مرحلة والمهم هو السلطة؟ وإذا كانت الدعوة إلى الحوار، هل ستكون هناك جرأة لمناقشة هذه المثالب التي أقعدت البلاد كثيراً وارتدت بها عهوداً إلى الوراء من البؤس الفكري.