ليس من الصعب تفسير موقف بعض الأحزاب اليسارية المعارضة المستنكفة من عملية الحوار الوطني، وهي تمارس أنواعاً غريبة من التدليس وصنع الالتباس والتشويش على الرأي العام، مثيرة الغبار حول الحوار ومنطلقاته ونتاجاته الراهنة وما أفرزته القرارات الرئاسية التي صدرت أخيراً تعزيزاً للحريات العامة وتهيئة الساحة السياسية للتوافق. وهذه الأحزاب الرافضة الانخراط في الحوار الوطني تتذرع بحجج واهية أن ما اتخذ من قرارات رئاسية وإجراءات وخطوات لا يكفي لالتحاقها بموكب الحوار فهي مثل حوض الرمل كلما سكبت فيه ماءً تلهف للمزيد!! تريد هذه الأحزاب من الحكومة تقديم كل ما عندها، وأن تتنازل لهم حتى عن آخر مزعة لحم في وجهها، وكنا بالأمس نجادل قيادياً بارزاً وعضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني وناشط حقوقي وصاحب تجربة برلمانية سابقة، فكان رده على سؤالنا: «لماذا لا تخطون خطوة للأمام ما دامت الحكومة مشت نحو مطالبكم عدة خطوات؟». فقال وهو ممعن في تأكيدات وإصرار وإلحاح غريب: «نحن سنخطو.. لكن نريد من الحكومة أكثر من ذلك.. ونحن لنا تحالفاتنا السياسية مع الجبهة الثورية وقطاع الشمال، ولا بد أن يطمئن حلفاؤنا إلى أن كل شيء انتهى وأُلغيت القوانين المقيدة للحريات وتم الاتفاق على الحكومة القومية التي تدير الفترة الانتقالية». تريد هذه الأحزاب التي ترهن قراراتها وإرادتها للخارج، وتلعب اللعبة القذرة بأن تجرد الحكومة من كل شيء قبل أن توافق على الحوار، وهي أمنية مستحيلة.. فالحكومة الحالية لن تفكك نفسها وتقلِّم أظافرها وتتنازل عن كل شيء بسبب هذه الأحزاب اليسارية التي تطن طنيناً وتعوي كما الذئاب الجائعة وهي تشتهي السلطة وتتمناها على طريقتها. فالشيوعيون هم أكثر عناصر التكوينات السياسية السودانية التي تلطخت أياديهم بالدماء، ولا يؤمنون بالحريات والديمقراطية أو حرية التعبير ولا حتى بالحياة الحزبية، فالحزب عندهم هو حزب واحد لا وجود لغيره، وتجربتهم في الحكم والعمل السياسي وطوال تاريخهم وطبيعة تكوينهم الفكري والنفسي والتنظيمي، كانت ضد التعددية الحزبية والانفتاح السياسي والحوار.. فهم لا يؤمنون بالحوار وسيلةً للوصول إلى نقاط اتفاق والتقاء، وأنه مدخل لتجنب الصدامات وأقرب السبل لإشاعة التداول السلمي للسلطة، ولذلك يهربون منه ويتجنبونه. وقد كتب الحزب الشيوعي السوداني على نفسه جريرة تدمغه رضي ذلك أم أبى، أنه هو الذي سنَّ القوانين المقيدة للحريات وقوانين العمل التي صفَّت الخدمة المدنية وشرَّدت الكوادر وأزاحت الكفاءات ودمرت الخدمة العامة وأشاعت روح التباغض وتصفية الخصوم السياسيين، بجانب القوانين التي ألجمت الصحافة ومنعت النشاط السياسي. وتجري في دماء هذا الحزب وتزدحم في شرايينه وأوردته، روح العسف والقهر والتسلط والكذب، فإذا كان الحزب الشيوعي وبقية نسله من الحركات والكيانات اليسارية المعارضة التي لا يرى بعضها بالعين المجردة، يتحدثون بلسان في العلن بأنهم مع الحريات والاستقرار والسلام، فإنهم عملياً يشجعون على الحرب والخراب والدمار ويهددون الأمن القومي للبلاد، ويتحالفون مع الشيطان من أجل أحلامهم البائرة بإسقاط النظام القائم. والدليل على ذلك أن كوادر وقيادات الجبهة الثورية المتمردة وقطاع الشمال بالحركة الشعبية وحركات دارفور المسلحة كلها ولدت من رحم هذا الحزب المتهالك، فحتى هذه اللحظة لم تنقطع صلة الحزب الشيوعي بعبد العزيز الحلو وياسر عرمان وعقار وعبد الواحد محمد نور وصف طويل من القيادات في هذه الحركات المتمردة، وهي ليست صلة عابرة أو تحالفاً ظرفياً أو تنسيقاً سياسياً صنعته الأيام وجلبته المواقف، بل هي صلات تنظيمية متينة وقائمة يستفيد منها الحزب ويوظف تمخضاتها لصالحه، إذ تخدم البندقية المتمردة أجندة الحزب وبقية فصائل اليسار الذي يحلم بالسلطة تحت لعلعة رصاص المتمردين وبيادق التيه. ولم يشتط الكثير من المحللين والمراقبين السياسيين، بتوقعاتهم أن الحزب الشيوعي لن ينضم للحوار الوطني، وسيجد لنفسه ألف مخرج وألف تبرير، وسيقول للناس إن ما تم حتى الآن لا يهيئ البيئة ولا يكفي لجلوسه مع كل الأحزاب السودانية التي تنادت للحوار.. وكأن عشرات الأحزاب التي شاركت وستشارك في الحوار، كبيرها وصغيرها .. لا تملأ عينه المفقوءة!!