إذا كان الأنموذج السوداني للإسلام السياسي يمثل المحور الأساسي في الحوار الوطني الجاري في الوقت الحالي، فقد يكون من المفيد للمزيد من التعميق لما يجري بشأن التحدي الغربي في هذا الخصوص وبهذا الصدد أن نشير لما ورد من قبل المفكر المصري الراحل المرحوم د. مصطفى محمود تحت هذا العنوان. فتحت عنوان «الإسلام السياسي» نشرت مجلة «الأزهر» الشهرية المصرية في عددها الأخير الذي صدر في وقت سابق من أبريل الحالي مقالاً للمرحوم د. مصطفى محمود ذكر فيه: حينما يصرح الساسة في الغرب بأنهم لا يعادون الإسلام، وأنهم ليسوا ضد الإسلام كدين، فأنهم يكونون صادقين بوجه من الوجوه.. فهم لا يعادون الإسلام الطقوسي.. بل ربمبا شجعوا على التعبد والاعتزال وحالفوا مشايخ الطرق الصوفية، ودافعوا عنهم.. ولكن خصومتهم وعداءهم هو للإسلام الآخر الذي ينازعهم السلطة في توجيه العالم وبنائه على مثاليات وقيم أخرى، والذي يريد أن يشق شارعاً آخر، ويرسي قيماً أخرى في التعامل، ونماذج أخرى من الفكر والفن الذي ينازعهم الدنيا ويطلب لنفسه موقع قدم في حركة الحياة، وهو الإسلام السياسي الذي يتجاوز الإصلاح الفردي إلى الإصلاح الاجتماعي والحضاري والتغيير الكوني. ويضيف المرحوم د. مصطفى محمود في مقاله المشار إليه والذي أعيد نشره في عدد أبريل الحالي من مجلة «الأزهر»: إن النمط الغربي للحياة تحول الآن إلى قلعة مسلحة ترفض أي منافس أو بديل.. وهي قلعة لها جاذبيتها، ولها مريدوها من المسلمين أنفسهم أحياناً.. وهكذا أصبح الإسلام السياسي يحارب في جبهتين.. فهو يحارب من أهله ويحارب من الأجنبي في وقت واحد.. ولن يكون للإسلام السياسي غلبة ولا صوت إلاّ إذا انهار المعسكر الآخر من داخله بالسوس الذي ينخر فيه.. حينذاك سوف يفيق الكل، وسوف يكتشفون أن التكنولوجيا الهائلة كانت مجرد بيت من الدمي واللعب المعدنية والبلاستيكية وأن الحضارة الغربية كانت بلا روح، وأنها لم تكن تحمل في داخلها مقومات استمرارها. ويشير المرحوم د. مصطفى محمود إلى أننا «رأينا مثالاً قريباً لما تنبأ به حينما سقط الدب الكبير في روسيا مغمى عليه وهو يحمل على ظهره قنابل ذرية تكفي لنسف الكرة الأرضية عدة مرات.. ويضيف أن الدور على بابا نويل الأمريكي الذي يتربع على قصور الجوهر والزخرف وصواريخ الباتريوت.. وانهياره ليس ببعيد.. وقد بدأ السوس يدب في أركانه.. لكن الوراثين لانهيار النظامين لن يكونوا مسلمي هذا الزمان الذين دب فيهم الوهن، وانقسموا طوائف وفرقاً يضرب بعضهم بعضاً.. وإنما الوارثون هم مسلمون آخرون يصنعهم الله على عينه ليكلل بهم هامة التاريخ.. وربما لن نراهم، ولن تكتحل أعيننا بهم، وربما يراهم أولادنا وأحفادنا.. ولكن حسبنا أن نبني طوبة، ونضع لبنة في طريقهم الطويل. ويضيف المرحوم د. مصطفى محمود: «قد يقول قائل: ما حاجتنا إلى الإسلام السياسي بالأثمان الباهظة التي سندفعها فيه.. ألا يكفي أننا نصلي ونصوم ونحج ونعبد الله على طريقتنا، ونعيش في حالنا لا يتعرض لنا أحد.. والإجابة واضحة وهي أننا لسنا متروكين في حالنا، فالانحلال الغربي يتسلل إلينا من تحت عقب الباب ويأخذ عقول أولادنا، ويراود بناتنا من خلال الموضات والتقليعات.. والأعداء من حولنا يخططون لما هو أكثر.. فهم يريدون أن يقاسمونا الأرض وشربة الماء ولقمة الطعام. ويشير المرحوم د. مصطفى محمود إلى أن احتلال العقل وإفساد العقيدة مقدمة لاحتلال الأرض وفرض السيطرة.. إنها حلقات يأخذ بعضها برقاب بعض.. وحياة الانحلال توهن العزائم وتبلد القلوب وتربي الضعف.. فتأتى الضربة التالية فلا تجد في الجسم الاجتماعي مقاومة.. وإذا بنا ذات يوم قد خسرنا الدين والدنيا، وخسرنا أنفسنا وخسرنا كل شيء.. ويختم المرحوم د. مصطفى محمود بأن «الله أراد للإسلام أن تكون له راية في الأرض وليس فقط أن يكون هداية للأفراد في ذواتهم.. وهو القائل في سورة التوبة: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله».. وإن هذا الإظهار للإسلام هدف مقصود ومراد من مرادات الله في الدنيا.