عندما انتهى اللواء عمر محمد الطيب رئيس جهاز الأمن في العهد المايوي من تنويره للضباط المكلفين على نقل الفلاشا اليهود من أصول إثيوبية إلى إسرائيل من أحد المعسكرات في شرق السودان بالقضارف جواً إلى إسرائيل قال لهم (سأكون معكم بمسبحتي) هذه العبارة ذكرها أحد الشهود الرئيسيين في المحكمة التي انعقدت لمحاكمته إبان الفترة الانتقالية بعد سقوط النظام المايوي الذي كان يتولى فيه منصب النائب الأول لرئيس نميري ورئاسة جهاز الأمن وبسبب الشهادة التي شهد بها اثنان من كبار الضباط في الأمن اللذان أشرفا على عملية نقل الفلاشا تمت أدانت اللواء عمر بالسجن تسعين عاماً وكان عمر عندما وصل إلى هذه المناصب الرفيعة كان في بداية الخمسينيات من عمره بعد أن تلقى دورات في الولاياتالمتحدة وألمانيا والعراق كما كان له دور بارز في قمع التمرد في جنوب السودان إبان حكم الفريق عبود والذي تم انهائه لاحقاً عبر اتفاقية أديس أبابا ليندلع في العام1983 وكان اللواء عمر المولود في منطقة الزيداب شمال السودان ثاني دفعته في الكلية الحربية بينما كان صديقه الحميم الفريق عبد الماجد حامد خليل أول الدفعة وربما كان لعبد الماجد دوراً في تعيين عمر محمد الطيب رئيساً لجهاز الأمن المايوي قبل أن يتم تعيينه لاحقاً نائباً لرئيس الجمهورية بالإضافة إلى رئاسته لجهاز الأمن. ٭ العلاقة مع السياسيين كان جهاز الأمن المايوي برئاسة اللواء عمر محمد الطيب بالرغم من التواضع النسبي للإمكانات المادية والتقنية للجهاز لكنه برع في اختراق التيارات السياسية في الداخل والخارج، واستضاف النظام المايوي المعارض الليبي لنظام القذافي يوسف المقيرفي بواسطة جهاز الأمن وقام بدعم المعارضة الليبية في مقابل دعم القذافي للمعارضة السودانية بليبيا والتي دعمت حركة يوليو المسلحة 1976، وكادت المعارضة اللييبة تنجح في قيادة حركة مسلحة ضد نظام القذافي وتصفيته لكن قيل إن المخابرات المصرية سربت المعلومة فكانت قوات القذافي في انتظارهم حيث قامت بإبادتهم جمعياً في باب العزيزية. وربما كان الشيوعيون هم الأكثر ملاحقة من قبل جهاز الأمن المايوي، بيد أنه رغم قدرة عناصرهم على العمل السري ودقة التنظيم لكن الجهاز تمكن من اختراقهم بالكامل. حيث تمكن من اعتقال العديد من الكوادر النشطة والسرية كما كان يعرف مكان اختباء زعيم الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد لكنه آثر عدم اعتقاله لأسباب أمنية تكتيكية. وحاول نظام المايوي أن ينصّب القطب الأنصاري البارز أحمد المهدي كإمام للأنصار بديلاً للصادق المهدي، وأوكلت هذه المهمة لجهاز الأمن بقيادة مباشرة وسرية من رئيس الجهاز اللواء عمر محمد الطيب، بيد أن المهمة فشلت. ٭ خطوة ذكية وعندما نجحت القوات المسلحة في فك الرهائن الأجانب في جبل بوما بقيادة قائد المنطقة الجنوبية العسكرية اللواء صديق البنا رحمه الله، طلب البنا من قيادة التوجيه المعنوي بعقد مؤتمر صحفي عالمي لتقديم الرهائن والحديث عن العملية الناجحة بيد أن الفرع رفض لتقديرات معينة ذكرها البنا فيما بعد في مذكراته الأمر الذي دعاه لمخاطبة اللواء عمر محمد الطيب وقال له إن المؤتمر الصحفي سيقدم خدمة إعلامية وسياسية للسودان كما أن الجهاز يستطيع أن يستجوب الرهائن وقد يحصل على معلومات مهمة عن نشاط المنظمات الأجنبية التي ينتمي إليها الرهائن، فوافق على الفور اللواء عمر وقام بتنظيم مؤتمر صحفي موسع حضره المراسلون الأجانب والمحليون وتحدث فيه الرهائن عن تجربتهم في الأسر، ونقل المؤتمر الصحافي على الهواء مباشرة عبر التلفاز، وهكذا اختطف اللواء عمر بذكاء الاحتفال بهذه المناسبة من أصحاب الحق وهم القوات المسلحة. ٭ انتفاضة أبريل ويحمد للواء عمر محمد الطيب عندما تفجرت الانتفاضة الشعبية في أبريل 1985 لم يطلق يد الأمن لارتكاب أعمال وحشية ضد المدنيين الثائرين إلا في إطار الاعتقالات المحدودة واستخدام غير عنيف للقوة وحين احتدمت الثورة الجماهيرية وبات النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة شهد اللواء عمر اجتماعاً حاشداً مع قادة الوحدات العسكرية بالخرطوم طالبهم بالانضباط وذكّرهم بأن الرئيس نميري هو الرئيس الشرعي للبلاد والذي جاء عبر انتخابات مباشرة إلا أن هذا التحذير لم يمنع قادة هذه الوحدات بالاتفاق في أقل من أربع وعشرين ساعة لإزاحة النظام في ثورة بيضاء تم خلالها اختيار المشير سوار الذهب رئيساً لمجلسها العسكري، وقيل إن نميري غضب لأن اللواء عمر لم يحافظ على النظام في غيابه باعتباره لم يستخدم الحسم المطلوب، وعندما جاءت الإنقاذ أطلقت صراح اللواء عمر محمد الطيب من السجن كما أطلقت بقية زملائه وهو ما يمثل مشاركة وجدانية للنظام العسكري الجديد مع نظيره العسكري السابق، غير أنه لم يلبث اللواء عمر أن غادر إلى المملكة العربية السعودية حيث عمل كخبير أمني فترة طويلة ثم سافر إلى مصر ثم عاد الى السودان ليعمل آنذاك في بعض الأنشطة التجارية والخيرية مثل إصحاح البيئة والتوعية بمخاطر الألغام وهي نقلة نوعية لرجل كان أبرز القادة في نظام قابض اتهم بالتسلط وغياب الحريات وإن نجح في إنشاء عدد من المشروعات التنموية، لكن من المؤكد أن الفريق عمر خرج بكنز من المعلومات والأسرار عن النظام المايوي ووقف على أسماء كل الذين تعاونوا معه من وراء حجاب وفي ذات الوقت سبحوا مع موجة الثورية بعد انتفاضة أبريل، وهو أمر أغضب اللواء عمر محمد الطيب وأطلق عليهم لقب أصحاب الحلاقيم الكبيرة في أحد الحوارات لكنه بالطبع منعته طبيعته الأمنية أن يكشف أسماءهم ولعله رأى أن يترك ذلك للتاريخ يوماً ما وإن كان ربما يتمنى ذلك في قرارة نفسه اليوم قبل الغد.