نعود بكم إلى الماضي حيث كان الاستعمار الإنجليزي يحكم في هذا البلد بإدارة حسنة وخدمة مدنية ومحافظة على الوعد حتى كان يقال لمن حضر في موعده إن «مواعيده إنجليزية». كان هذا السودان مقسوم إلى ست مديريات بخلاف مديريتي الجنوب، وكانت المديرية في قمتها مدير المديرية ثم المراكز ومفتش المركز والمأمور، كانت المديرية الشمالية بحدودها من دنقلا حتى مديرية الخرطوم وكانت بها ستة مراكز كان آخرها شمالاً مركز شندي، الذي يضم قبائل الجعليين الذين تصعب إدارتهم، وكان داؤود عبد اللطيف مفتش مركز شندي ذلك إن لم تخني الذاكرة في أواسط الأربعينيات، وكنت في ذلك الوقت أحد عمد مركز شندي نائباً لوالدي، وقد شهدت داؤود عبد اللطيف مفتشاً للمركز. كان رجلاً حصيفاً في إدارته لذلك المركز الساخن، وكانت شخصيته قوية وكان من الإداريين الذين يشار بذكرهم في السودان، قصير في قامته ولكنه طويل في قراراته الحاسمة، وكان هذا المركز مقر الجعليين لا يختار له إلا رجلاً حصيفاً ومقتدراً، وكان داؤود عبد اللطيف في ذلك العهد. ومن الحكايات الطريفة التي تحضرني في هذا المقام كان ذلك العهد أيام التموين وتتحكم الدولة في صرف المواد بالبطاقات، وكان أهل قرية كلي انقطع عنهم حقهم من التموين بما فيه السكر، وجاء وفد مهم ثائر للسيد داؤود باعتباره مفتش المركز والمسؤول، وقالوا أين حقنا في التموين، وقال لهم امشوا لحضرة ناظر الجعليين «ود البي»، وكان ناظر الجعليين قد حلف أن لا يدخل في أي لجنة للتموين، ولما حضروا إليه قالوا له: إن السيد داؤود قال حقهم في التموين عند الناظر، وحمل عصايته الخطيرة وأخذهم للمركز ودخل على سيد داؤود قائلاً: كيف تقول لهم إن التموين عندي، وهجم عليه بعصاته ليضربه، وهكذا هاج المركز بكل إداراته واجتمع زعماء الجعليين مقدمين اعتذاراً للسيد داؤود في مجلس حضره الناظر، وقال داؤود بحصافته: يا حضرة الناظر لا تقول إني مفتش المركز وصاحب السلطة ولا تقول إني ضيف في بلدك، وهنا وقف حضرة الناظر يتقدم بالاعتذار للسيد داؤود ما جعل داؤود يتحرك من مكانه قبل أن يصله الناظر ليقدم اعتذاره. هكذا تلك الأيام وأمثال ناس داؤود وشرفي من الإداريين لن تتكرر صورتهم أبداً في صفحات تاريخ الإدارة في السودان، والسيد داؤود عبد اللطيف هو والد رجل الاقتصاد أسامة داؤود وإخوانه وهم قادة الاقتصاد في السودان. رحم الله السيد داؤود بقدر ما قدم للبلد. وفي هذا فقط أردت أن أحيي ذكراه وهي خالدة في تاريخ الإدارة في السودان.