نشرت جريدة «الصحافة» في عددها بتاريخ 27/2/2011م مقالا للاخ والصديق والزميل مدير المديرية السابق محمد ابراهيم عبد الحفيظ، عندما كانت المديريات تسعاً فقط. وقد لفتت النظر ملابس الاداري ببرنيطته المميزة منذ عهد الاستعمار والتي استبدلها المرحوم الرئيس نميري بقبعة مثل قبعة الجيش، وحول وزارة الحكم المحلي للقصر الجمهوري، رغم انها كانت تشرف على كل مديريات السودان وتوجهها. لكن الرئيس المرحوم نميري كان يريد ان يوجه كل الاداريين وضباط المجالس من داخل القصر حسب مزاجه الشخصي، ولأن مفتشي المراكز وضباط المجالس كانوا يشرفون على قائد المنطقة، وكان عميدا والمفتش يزيد مرتبه عليه بعلاوتين لكي يرأس مجلس تأديب ضده. اما مدير المديرية فتكون كل السلطات العسكرية من قوات مسلحة تحت أمره، ومن لا ينصاع للاوامر يعاقب. المديرون والمفتشون والضباط التنفيذيون في الخدمة المدنية هم امناء خزائن الدولة، وهم رؤساء جهاز الامن، لذلك كانت كل احوال البلاد مستقرة ولم تحصل محاولات لاي انقلاب اقليمي في كل السودان، لهيبة الدولة التي تمثلها الخدمة المدنية. واعجبني جدا تحليل الزميل محمد ابراهيم عبد الحفيظ، ولفت نظري لاهميته، باعتباره احد المواطنين ذوي الرأي السديد ولأنني بلغت من العمر ارذله وضعف نظري وهشت عظامي، لذلك حرصت على اقتنائه وقرأته، رغم انني اقرأ العناوين الكبيرة في الصحف فقط. والحمد لله فقد وجدت فيه تحليلا دقيقا وصادقا لا يعرفه الكثيرون ممن يمارسون السياسة في هذه الايام. وارجو ان يترجم في قسم الترجمة بجامعة الخرطوم ليكون نبراسا لأهلنا المسيرية والدينكا نقوك في أبيي. ولأنه تقرير محايد، ولأن الاداريين كانوا ممنوعين من العمل في السياسة او التجارة ولو ترجم هذا التقرير لتفهمته الهيئات الدولية، وهو أقيم من تحكيم لجنة لاهاي الدولية البعيدة عن فهم ما يجري في أحراش افريقيا. ألخص المقال الجيد والمحايد والرائع تاريخيا في الآتي: 1/ اولا كانت المنطقة قبل عام 1905 قاعا صفصفا قليلة السكان، وكان الدينكا 1000 نسمة قبل ان يأوي الناظر مشول دينق الى والد بابو نمر، واكرمه وافسح المجال له ولعائلته ومن اتى معه، وتم التزاوج بينهما وعاشوا في سلام ووئام، ففي سنة 1950م زار الحاكم العام جوبا ومعه مديرو المديريات الثلاث الانجليز، وأحضروا مشول دينق وطلبوا منه أن ينضم للجنوب، فرفض وقال إنه وجد السعادة في الشمال مما يعانيه من ضيق وتعنت في الجنوب. 2/ المركز كان يسمى مركز دار المسيرية في عهد الاستعمار، ولأنهم كانوا يسيطرون عليه عددا وعدة من مواشٍ وانعام، وبحر العرب كان يسميه المسيرية الجرف والبحر ويسميه الدينكا نقوك «كير» وقاعدته هي شبه المستطيل في قاعدته بين الحد الفاصل بين بحر الغزال وكردفان، وكانت المساحة 4950 كيلومترا مربعا. 3/ المرجع هو خريطة مصلحة المساحة الصادرة في عام 1936م التي لم يعطها تحكيم لاهاي اي اعتبار، وهي خريطة رسمية موثقة لا يأتيها الباطل، وقد زاد تحكيم لاهاي المساحة من 4950 الى 10 آلاف و460 اي ضعف المساحة. 4) المسيرية رعاة يقيمون نصف العام في الجنوب والنصف الآخر في القوز في الشمال، وفي الجنوب معهم عمدهم ومشايخهم ومحاكمهم، وفي الشمال يذهبون للبابنوسة وكجيرة ورجل الفولة حتى مومو القريبة من الأضية. 5/ التصويت قال الجنوبيون إنه للعاجيرة من المسيرية فقط والذين يقيمون في المنطقة طول العام، وليس الفلاتة الذين ينزحون نصف العام، ولكن الارض اصبحت دارا لهم Home وكلاهما له حق التصويت، واستشهد الاداري القدير بتقارير آخر مفتش انجليزي واستاذ بجامعة الخرطوم الذي درس احوال المنطقة عدة سنين وهو كان أستاذا للانثروبولوجي من سنة 1952 الى سنة 1954م في جامعة الخرطوم. والحلول التي قدمها مدير المديرية محمد إبراهيم عبد الحفيظ والاداريون وهم العارفون بشعاب مكة والسودان اكثر من المستشارين السياسيين الذين عينهم الرئيس عمر البشير وتمت استشارتهم، استفاد منها حكم عبود. ولم ترجعهم لمناصبهم الاحزاب الكبيرة لأنها تكره تطبيق القوانين في الاحد عشر مجلدا، وهم يريدون ان يتخطوها لمصالحهم الشخصية، والاداريون لم يحتجوا ليطهرهم عقيد في الجيش، ولأنهم يطبقون قول النبي «إن رأيت شحا متبعا وهوى مطاعا واعجاب كل شخص بنفسه فالزم عليك بيتك». امثال هذه التقارير الملتزمة والمحايدة تعكس فهم الاداريين الممتاز لمشكلات مناطقهم كداؤود عبد اللطيف الذي انقذ حياة «3000» مواطن شمالي في بحر الغزال من الموت بانسحابه من مديرية بحر الغزال، وتقارير مفتش نيالا اسماعيل بخيت عن مشكلات المعاليا والرزيقات، والمرحوم عالم رمضان معتمد دار مساليت عن مشكلاتهم وسلطاتهم، وعثمان عبد الرحيم وسليم حسن سليم عن مشكلات شمال كردفان بام روابة وكتاب السني بانقا عن عرب شرق السودان وشخصي المتواضع عن انها ثورة «سدني» في دارفور دون اطلاق طلقة واحدة او صرف جنيه واحد نسبة لهيبة وفهم الحكام لمشكلات مناطقهم وناسها، فخدمت الثورة التي كانت اخطر من الثورات الاخيرة لمدة 40 عاما. واذكر ان ظهرت مشكلات في الحدود بين مديريتي كسلا والنيل الازرق عام 1957م في منطقة الشبارقة، وترأست الاجتماع الذي حضره الناظر يوسف المرضي وعمدة من الشبارقة وعمد ومشايخ الشكرية من ابناء الهد ومشايخهم، فاحتد الخصام وكل فرقة تحسست سيوفها، فرفعت الاجتماع الى جلسة قادمة تفاديا لسفك الدماء، وبعد اسبوعين حضرنا ومعنا المساحون وخرائطهم، فتبعناهم جميعا ووجدوا بعض الاعمدة الخرصانية موجودة واخرى حطم الرعاة رأسها ولكن اسفلها ثابت. والمساحون وضعوا غيرها، وفي زمن وجيز ركبت الأعمدة الخرصانية وانتهى النزاع، ولا تحتاج الحدود بين المديريات الى نزاع سياسي عقيم كما قال المدير محمد عبد الحفيظ، وصغار الاداريين مع المساحة بإمكانهم حل الأمر الذي لا يحتاج لهيئات دولية، والحدود بين المديريات التسع واضحة، ووضعت المساحة الأعمدة الخرصانية. وكان مرتب مدير المديرية في ذلك الزمن هو «150» جنيها في الشهر، وكان اعلى مرتب في الدولة يساوي بسعر اليوم «350» الف جنيه، اذا قارناه بالملايين التي يأخذها نظرائهم زيادة على الحوافز السنوية. اما معاشاتهم فيؤسف لمن أقرها، فمديرو المديريات ووكلاء الوزارة الذين كانوا يرأسون اية رتبة عالية في الجيش معاشهم «200» جنيه في الشهر، مع أن معاشات من كانوا دونهم في الرتب من القوات المسلحة بالملايين. لماذا هذا الظلم؟ ولماذا يباع نادي الاداريين وتترك اندية القوات المسلحة وتتوسع وتصبح تجارية، رغم القرار الرئاسي الجليل بارجاعها للاداريين؟ ما قصدت الا الاصلاح وما توفيقي الا بالله، ولتكن النظرة بعيدة لما حصل في تونس ومصر وستتبعهما دول اخرى من حكم العسكريين. نسأل الله السلام والسلم للبلاد، ويكفينا اعجاب كل شخص بنفسه، وأن يعيد الخدمة المدنية، لأن الانسان لا يتخيل ان تقوم ثورة عسكرية في اوربا وامريكا التي تعاني منها الشعوب العربية، وكل يريد أن يسلم حكم البلاد لابنائه. *إداري في قمة درجات الخدمة المدنية