البرتا هي إحدى أكبر القوميات الموجودة في ولاية النيل الأزرق ولها امتداد داخل الحدود الأثيوبية بإقليم بني شنقول وظلت محتفظة حتى الآن بهويتها السودانية ولعل أول ما تلاحظه عند وطء أقدامك لتلك المنطقة السحنة والسمات السودانية البائنه في ملبسهم وأشكالهم وعاداتهم، وأبرزها الشلوخ المطارق، وتتمتع مناطق سكناهم بمصادر طبيعية هائلة وان منطقة بني شنقول قمز والتي بات نصفها ينتمي اليوم لأثيوبيا بفعل إهمال الحكومات السودانية المتعاقبة واشتهرت بانتاج الذهب، مدينة أصوصا وهي العاصمة الأولى لإقليم بني شنقول والتي تطورت لشكلها الحالي في خمسينيات القرن الماضي كانت تتسلم الضرائب من المسئولين الموجودين آنذاك بواسطة الذهب علاوة على ذلك فإنه حينما تم افتتاح بنك في أصوصا عاصمة إقليم بني شنقول فشعب المنطقة كان يطالب بدفع الذهب في كل التعاملات البنكية. ويُعتبر استخراج الذهب عمل تقليدي لدى البرتا ولا يزال علامة اجتماعية بارزة لهم يمارسونها عبر عمليات التنقيب التقليدية والتي تعكس بصورة خاصة مدى براعتهم في استخراج الذهب بصورة بدائية، ولعل ذلك كان الدافع الحقيقي لاجتياح محمد علي باشا للمنطقة عشرينيات القرن التاسع عشر،وعلى الرغم من أن كنوز الذهب لإقليم بني شنقول لم تسجل لعدة قرون إلا انه قد بدأ استغلالها خلال عهد الشيخ حسين خوجلي أبو الجاز حاكم الإقليم آنذاك والمنحدر أصله من قبيلة المحس بجزيرة توتي ويعتبر أحد مؤسسي مدينة أصوصا وأنه ناضل بكل شجاعة رفقة أبناء عمومته الشيخ النذير علي محمود دفع الله العجمي آل مَرخه القادم من منطقة كبوشية والشيخ الجاز مصطفى القادم من منطقة المتمة السودانية وأتباعهم من السودانيين قاتلوا الإيطاليين الغزاة وضحوا بأنفسهم من أجل الحفاظ على وحدة وسيادة السودان الوطن الأم وتم دفن أغلبهم في مدينة أصوصا وإن قبورهم تُعد الآن من المواقع السياحية في المنطقة. توجد في إقليم بني شنقول خمس قوميات وان قومية البرتا تشكل عشرين في المائة من إجمالي تعداد سكان الإقليم الذي يبلغ نحو ست ملايين نسمة، وأغلبيتهم تعتنق الإسلام، وقليل منهم يعتنقون ديانات أخرى ولعل سبب اعتناق الأغلبية الدين الإسلامي يعود لنزوح أعداد كبيرة من سكان شمال شرق السودان إلى إقليم بني شنقول خلال القرن السابع عشر في شكل جماعات دينية وتجارية نجحت ببراعة في استمالة البرتا للإسلام الذين كان ولا زال لدى البعض منهم ممن لم يعتنقوا الإسلام ديناً طقوساً دينية فريدة يسمونها «نوفا» وحينما تمارسها القبيلة فإنها لا تستطيع السيطرة على نفسها وتصل درجة نكران الذات. وللبرتا ثقافات مستمدة من العادات والتقاليد السودانية الأصيلة تتمثل في علامات ال «شلوخ» بذات كيفية شلوخ القبائل في شمال السودان وتحمل معنيين مزدوجين وتعني بالنسبة للرجال رمزا للشجاعة والإقدام أما بالنسبة للمرأة فهي رمز للجمال والأمانة والإخلاص ولا بد لكل برتاوي أصيل أن ي«تشلخ» لأنها إرث الآباء والأجداد لعدة قرون وفي ثقافة البرتا فإن أي فرد منهم لا يحمل شلوخ مطارق ( 111 ) لا يُعتبر مُنتمٍ إليها ولهذا السبب فإنهم يحرصون على حمل هذه العلامة تأكيداً على أصالة الانتماء للقبيلة . قومية البرتا تمتاز بالكرم الحاتمي الغريب ويتمثل ذلك في الاستقبال الحار للضيف حيث يجتمعون حوله ويقومون بتقديم الرقصات والأغاني بالآلات الموسيقية التي يطلقون عليها اسم«كا» التي يصل طولها حوالي متر واحد وتستخدم كآلة نفخ موسيقية وأنها بجانب آلة «البمرنخ» والالآت الموسيقية التقليدية الأخرى تصدر أنغاماً موسيقية فريدة من نوعها ويقومون من خلالها بالترفيه عن ضيفهم بعدها يأخذونه إلى داخل كوخ خاص، ومعظم بيوت القبيلة مصنوعة من أشجار البامبو وأشجار الخيزران و«القش» وتُبنى عبر النفير، وغالبا ما تقوم كل العائلة ببناء منزلين أو ثلاثة في شكل قطاطي إحداها مخصصة للضيوف وثانية وهي الأهم تُخصص للنساء وأخرى للأبناء الذين بلغوا الحلم. وبجانب اعتماد البرتا بصورة رسمية على المصادر الطبيعية واصطياد الحيوانات البرية في غذائهم إلا أن العصيدة السودانية المعروفة تُعتبر وجبتهم الرئيسة والغريب في الأمر أن الرجال والنساء منهم لا يأكلون معاً وإنما الرجال في جانب والنساء في الجانب الآخر فيما لا يتناول أحدهم طعاماً قط أمام والد زوجته أو أمها وكذلك المرأة منهم حيث يُقدسون العلاقات الإنسانية بشكل غاية في التقدير والاحترام. وعند الشروع في القيام برحلة الصيد يقومون أولاً باختيار قائد للمجموعة وبعدها يقومون بتثبيت سبع قطع من الخشب ترمز كل واحدة منها ليوم من أيام الأسبوع ومن ثم تجري قرعة عن كل قطعة من تلك الأخشاب ثم يقوم أي واحد من الصيادين بحمل معدات صيد مثل الرماح والحربة والكوكاب وهو آلة خشبية محدودبة يستعملونها في الصيد والحروب ومن ثم يصوبون ناحية مكان القنص. ويمتع شعب البرتا بطاقة هائلة وشجاعة نادرة ومروءة قل أن تتوفر في شعوب المنطقة وحرفته الرئيسة تتمثل في الزراعة وإنتاج المحاصيل الزراعية مثل القمح والذرة واللوبيا وكل أنواع الحبوب الغذائية وبعد الحصاد يضعونها في مخزن بلدي «قطية» وتُسمى ب«السييبه» بداخلها عدد من الطوابق، كل محصول يُحفظ في طابق فيما يوضع المتبقي من الحصاد في مكان زراعته في عريشه يسمونها «السيداب» ويظل هذا المحصول باقياً في مكانه طول العام لا يقربه أحد حيث لا يوجد لصوص بينهم البتة ومن يكتشفون أنه امتهن اللصوصية يضربونه ضرباً مبرحا ويطردونه شر طردة من مجتمعاتهم. ومع تمسك تمسُّك القبيلة بهويتها السودانية إلا أن مناطق البرتا بولاية النيل الأزرق ظلت تعاني الأمرين والإهمال الكبير من قبل الحكومات السودانية وتعتبر الأكثر فقراً وتخلفا على نطاق السودان وفي كل الجوانب حيث تفتقر بشكل أساسي للتعليم والصحة والمياه النقية الصالحة للشرب حيث يعتمد غالبيتهم في شربهم على مياه الخيران الموسمية عبر حفر «الجمام» أو الحفائر الطبيعية وأعالي الجبال والمحظوظ منهم من يسكن قرب النهر،ناهيك عن معاناتهم جراء وعورة الطرق خاصة في فصل الخريف. إنها قضية شعب جدير بالاحترام والتقدير يمثل إحدى قوميات السودان الأصيلة بل هم أصل السودان الحديث، نضع قضيتهم أمام المسؤولين بالمركز وولاية النيل الأزرق للالتفات لها أعجل ما تيسر لحسم معاناتهم والقضاء على حالة الفقر والجهل والمرض التي يعانونها ومع ذلك تزداد وطنيتهم وتمسكهم بالسودان الوطن الأم يوماً بعد يوم رغم محاولات السلب الثقافي وتغيير الهوية الإسلامية والعربية التي يعتزون بها أيما اعتزاز.