قبل مدة قصيرة حضر إلى السودان وفد سعودي بغرض التعاقد مع ثلاثمائة صيدلاني سوداني مقابل راتب يبلغ السبعة آلاف ريال سعودي إضافة لامتيازات أخرى من سكن وترحيل وغيره. قام الوفد السعودي باستئجار قاعة لاجراء امتحان المنافسة بين الصيادلة المتقدمين لتلك الوظائف، إلا أن الوفد السعودي فوجئ بأن عدد الصيادلة المتقدمين لأداء الامتحان وصل إلى حدود الثلاثة آلاف صيدلاني. لم يجد الوفد قاعة تستوعب هذا العدد الكبير من الممتحنين، فلجأوا إلى عقد الامتحان في صالات معرض الخرطوم الدولي، وجرى تخفيض الراتب إلى خمسة آلاف ريال فقط، وربما طال المقص بقية الامتيازات، الله أعلم، علماً ألا أحد من الصيادلة من الجنسيات الأخرى يتقاضى أقل من تلك السبعة آلاف ريال.. هنا لا تثريب ولا لوم نلقية على أحد، فالمسألة في هذه الحالة يحكمها قانون العرض والطلب «فقط» لا غير لغياب الأجهزة الحكومية التي تتدخل لصالح مواطنيها لاستخلاص أحسن شروط توظيف لهم.. كما ان غياب الوعاء النقابي «الاتحاد» جعل من السهل إخضاع الصيادلة لأي شروط عمل مجحفة أو تخفيضها كيفما اتفق، بناء على آلية العرض والطلب. وقبل أسبوعين تقريباً عقد فريقان من الصيادلة اجتماعين متزامنين في موقعين مختلفين: فالاجتماع الأول تم عقده في قاعة الصداقة لمناقشة عدد من الأوراق، ونظم هذا الاجتماع لجنة تسيير اتحاد الصيادلة المنتهية دورته منذ العام 2009، وما زال رئيسه متشبثاً بتسيير أعماله عبر هذه اللجنة التي أصبح عمرها الآن 5 سنوات كاملات بدلاً عن الشهرين المنصوص عليهما قانوناً.. حقيقة لا أدري ما الذي يدفع برئيس لجنة التسيير لمناقشة أي أمر أو قضية من قضايا المهنة وهو يعلم تمام العلم أن أما من عمل «قانوني» وشرعي تستطيع لجنته القيام به سوى إجراء الانتخابات التي تقاعس عنها لخمس سنوات كانت كافية لتخريج خمسة دفعات من الصيادلة بعدد اجمالي 8000 صيدلاني، لا يعرفون لهم اتحاداً ولا تنظيماً، بل وعليهم الآن أن «يقاتلوا» لإثبات حقهم في الاقتراع لاختيار اتحادهم!! أما الاجتماع الثاني فقد انعقد بدار اتحاد الصيادلة وقد نظمته مجموعة من الصيادلة، ممن عرفوا باسم «منسقو مبادرة الألف توقيع» وكان الاجتماع بغرض مناقشة استعادة اتحاد الصيادلة المختطف. صور متتالية تعكس حالة التردي والتشظي والشروخ العميقة والتصدعات التي تضرب بنية القطاع الصيدلاني، وكيف أن غياب الاتحاد وتغييب إرادة وصوت الصيادلة لعشر سنوات متعاقبات أورثنا قطاعاً مريضاً متهالكاً وهشاً، وأن استعادة هذا الاتحاد هي مهمة الساعة والوقت الوحيد لأن استعادته تعني محاولة استعادة الروح وتوحيد الإرادة وتقريب الرؤى حول قضايا قطاع الصيدلة ومنسوبيه: كيف يعقل أن ثلاثة عشر ألف صيدلاني/ صيدلانية مسجل يمارسون مهنتهم دون مظلة نقابية تتصدى لقضاياهم المهنية وتحسين أوضاعهم وشروط عملهم وتحافظ على كرامتهم المهنية وغيرها من قضايا!! عشر سنوات من غياب التنظيم تحت مظلة اتحاد فاعل هي ما يدفع بالأمور إلى الحضيض، حد أن ربع عدد الصيادلة أصبحت آمالهم وتطلعاتهم المهنية والمادية مرتبطة بوجود فرصة عمل خارج حدود هذا الوطن، مما أغرى المخدمين أن يخفضوا من شروط «التعاقد التي جاءوا بها وطرحوها، ولم لا، وهم يرون ثلاثة آلاف صيدلي يتزاحمون على ثلاثمائة وظيفة فقط وهم في حالة إذعان تام لكل شرط جديد حتى وإن انتاش هذا الشرط كرامتهم المهنية وجرحها عميقاً. في خلال سنوات الغياب العشر ارتفع عدد الصيادلة المسجلين من حوالي أربعة آلاف صيدلي إلى أكثر من ثلاثة عشر آلف صيدلي، بزيادة تصل إلى نحو 300%، كما ان اثنتي عشرة كلية صيدلة سودانية ترفد سوق العمل بحولي 1000 صيدلي وكليات صيدلة أخرى في روسيا والهند وغيرها تخرجان حوالي 500 صيدلي سوداني سنوياً، مما يعني انضمام حوالي 1500 صيدلي سنوياً لقطاع الصيدلة، فإذا أخذنا في الحسبان أن سوق العمل الصيدلاني لا ينمو ولا يتسع بذات نسبة زيادة عدد الصيادلة، فما من استنتاج يمكن الوصول إليه غير أن زمان العطالة الصيدلانية قد أظلنا.. وفي خلال سنوات الغياب العشر تردى الوضع المادي للصيدلي ليصبح واحداً من أقل الدخول، باستثناء قلة من الصيادلة لا يقاس عليها بالطبع، نسبة لغياب الجسم الذي ينظم مسائل الأجور والحد الأدنى لها وفق معايير وشروط محددة. وفي خلال سنوات الغياب العشر تم اختطاف المهنة ومكتسباتها لصالح المستثمرين فيها من غير الصيادلة، وفي بعض الأحيان قام بعضهم مقام الصيدلي في تصريف شؤون العمل!! ويقومون.. ما زالوا!! وفي ظل ظروف اقتصادية قاسية من المتوقع أن يتردى وضع الصيادلة مادياً ومهنياً واجتماعياً، لأن قطاع الدواء من أكثر القطاعات تأثراً بحالات التردي الاقتصادي وشح العملات الأجنبية وتدهور مستوى المعيشة وضمور القوة الشرائية للجمهور.. ألخ، وهي أمور تؤدي إلى انكماش مستوى تداول الدواء وبالتالي تتقلص فرص التوسع والاستثمار فيه وبالتالي تتضاءل فرص التوظيف، وبالتالي ستزداد معاناة الصيادلة خاصة في غياب التأمين الصحي والاجتماعي وبقية إشكال التأمين وفي غياب توافق على الحدود الدنيا لشروط خدمة الصيدلاني. هذه قضايا حيوية تتطلب استعادة الاتحاد بأعجل ما يكون، إذ بغيره يصعب التعاطي مع هذه القضايا بشكل جماعي وفعال.. إن ثلاثة عشر ألف صيدلاني يشكلون قوة عمل وقوة اقتصادية لا يستهان بها، بل هي قوة قادرة على إنشاء الكثير من الاستثمارات في مجال الصيدلة أو في المجالات ذات الصلة، مما قد يوفر تمويلات ضخمة لانشاء صناديق اجتماعية وائتمانية لصالح الصيادلة، وهذه برامج ومشروعات لا يمكن إنجازها إلا في وجود اتحاد يحمل العزيمة والكفاءة والرؤية والبرامج. من كل هذا يجيء تثمين مبادرة «الألف توقيع» من حيث كونها عملاً تأسيسياً يحتاج جهوداً كثيرة وخطوات عملية ومثابرة وصبراً حتى يصير الاتحاد واقعاً يمشي بيننا، إلا أن هناك بعضاً مما ورد في المذكرة المرفوعة من قبل أهل المبادرة يحتاج إلى معاودة النظر فيه وهذا ما سنحاول طرحه.